من آياته
من آياته :
القرآن الكريم هو كلام الله المسطور ، وكونه الفسيح هو خلقه المنظور .
والانسجام بينهما أمرٌ طبيعي ؛ لأن مصدرهما واحد ، من قِبَل الله الواحد .
وحديث أحدهما عن الآخر يكون حديث صدقٍ وحق .
وحديث القرآن عن الكون يكون بلسان المقال ، وأما حديث الكون عن القرآن يكون بلسان الحال .
فلنقرا آيات الله ؛ المسطور والمنظورة بالعقل تأثرًا ، وبالقلب تدبرًا ، وبالنفس تغيرًا .
هي -ورب الكعبة- آيات في إثر آيات ؛ صورها للناس في مرأى الشمس إذا برزت من خدرها ، والوردة إذا خرجت من كمها ؛ فينكشف النقاب عن وجه الحق حتى يظهر في صورة البرق إذا لمع ، والسحاب إذا همع ، والحمام إذا سجع ، والعبير إذا سطع .
ويبين الله جلّ في علاه بعض آياته في الكون ، والتي لا يماري فيها إلا الكفور ؛ فيقول الله العزيز الغفور :
- ” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ “. (الروم : 20)
- ” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا “. (الروم : 21)
- ” وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ “. (الروم : 22)
- ” وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ “. (الروم : 23)
- ” وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا “. (الروم : 24)
- ” وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ “. ( الروم : 25)
آيات بينات تلك التي تُوصِّل الإنسان اللبيب إلى معرفة أن الله تعالى وحده لا شريك له هو الجدير بالتسبيح والتحميد .
” فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ “. (الروم : 17-18)
- ولله در ربيعة بن أبي ربيعة وهب بن علاج الثقفي القائل :
إن آيات ربنا ثاقباتٌ … ما يماري فيهن إلا الكفورُ
خَلَقَ الليلَ والنهارَ فكلٌّ … مستبينٌ حسابُهُ مقدورُ
ثم يجلو النهارَ ربٌّ رحيمٌ … بمهاةٍ شعاعها منشورُ
كل دينٍ يوم القيامة عند … اللهِ إلا دين الحنيفةِ بورُ
– آيات مبهرة :
من آيات الله المبهرة الدالة على قدرته وعظمته ووحدانيته ، والتي وردت في سورة ” الروم“ :
- أن خلقنا من تراب ؛ حين خلق أبانا آدم عليه السلام من طين ، ثم إذا نحن بشرٌ نتكاثر بالتناسل ، وننتشر في كل مكان فوق أرضه الواسعة .
- ومن آياته العظيمة كذلك أن خلق من أجلنا ومن جنسنا أزواجًا لتطمئن أنفسنا إليهن للتجانس بيننا ، وصَيَّرَ بيننا وبَيْنَهُنَّ مودة ورحمة .
- ومن آياته العظيمة : خلق السماوات والأرض ، ومنها اختلاف لغاتنا ، واختلاف ألوان البشر ؛ كما هو واضحٌ للنظر .
- ومن آياته العظيمة كذلك : منامنا بالليل وبالنهار ؛ لتستريح أجسامنا من عناء العمل .. ومن آياته أن جعل لنا النهار لننتشر فيه ، ولنبتغي رزق ربنا جل في علاه .
- ومن آيات الملك عز وجل : أن يرينا البرق في السماء ، ويجمع لنا فيه بين الخوف من الصواعق ، والطمع في المطر ، وينزل لنا من السماء ماء المطر ؛ فيحيي الأرض بعد جفافها بما ينبت فيها من نبات .
إن في ذلك لبراهين ودلالات واضحة لقوم يعقلون ، فيستدلون بها على البعث بعد الموت للحساب والجزاء .
- ومن آياته عز وجل : قيام السماء دون سقوط ، والأرض دون انهدام ؛ بأمره سبحانه ، ثم إذا دعانا -جل شأنه- دعوة من الأرض بنفخ المَلَك في الصُّور إذا بنا نخرج من قبورنا للحساب والجزاء .
- وله وحده من في السماوات ، وله من في الأرض مُلكًا وخلقًا وتقديرًا ، كل من في السماوات وكل من في الأرض من مخلوقاته منقادون له مستسلمون لأمره .
- وهو سبحانه الذي يبدأ الخلق على غير مثال سابق ، ثم يعيده بعد إفنائه ، والإعادة أيسر من الابتداء ، وكلاهما سهل عليه ؛ لأنه إذا أراد شيئًا قال له : كن ؛ فيكون .. وله عز وجل الوصف الأعلى في كل ما يوصف به من صفات الجلال والكمال ، وهو العزيز الذي لا يُغَالَب ، الحكيم في خلقه وتدبيره .
يا خالق هذا كله : سبحانك .
– وقفات مع الآيات :
- الشرك عملية مقيتة :
الشرك صورةٌ مذمومة لا يقبلها ذو لُبٍّ على نفسه .
” ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ “. (الروم : 28)
- الناس سواسية :
كم انزعج أهل مكة الكافرون حينما جاءهم الإسلام من بداية الأمر يقول : إن الناس سواسية في دين الله ، العبد والسيد مع حفظ كل واحد لعمله ، واحتفاظ كل واحد بمكانته .
الناس سواسية كأسنان المشط ، وأكرمكم عند الله أتقاكم .
انزعجوا جميعًا من هذا ، كيف بدين يُسَوِّي بين السادة والعبيد !
وكيف أنتم تسوون بين الله وبين خلقه ، تعبدون معه حجرًا لا يسمع ولا يبصر ، لا ينفع ولا يضر ، ولا يملك من أمر نفسه شيئًا ، فكيف تعبدونه ؟!!
” هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ “. (الروم : 28)
وصل الله بهم إلى هذه النتيجة المترتبة على هذا السؤال ، وهي كما أننا لا نقبل التسوية بيننا وبين من هم أدنى منا ، لا نقبل التسوية بين الله وبين عباده بالشرك .
- أمنا حوّاء خُلقت من ضلع آدم عليه السلام ، والنساء بعدها خُلِقن من أصلاب الرجال ، أو من شكل أنفسكم وجنسها ، لا من جنس آخر ، وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الإلف والسكون ، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ التوادّ والتراحم بعصمة الزواج ، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة ، ولا لقاء ، ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم .. ويقال : سكن إليه ، إذا مال إليه ، كقولهم : انقطع إليه ، واطمأن إليه ، ومنه السكن ؛ وهو الإلف المسكون إليه ، فعل بمعنى مفعول .
وقيل : إن المودة والرحمة من قِبَل اللّه ، وإن الفرك من قِبَل الشيطان .
- يقول ربنا عز وجل : ” وَمنْ آياته خَلْقُ السَّماوات وَالْأَرْض وَاخْتلافُ أَلْسنَتكُمْ وَأَلْوانكُمْ إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ للْعالمينَ “. (الروم : 22)
الألسنة : اللغات ، أو أجناس النطق وأشكاله .
خالف عزّ وجل بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدّة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة ، ولا لكنة ، ولا نظم ، ولا أسلوب ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله ، وكذلك الصور وتخطيطها ، والألوان وتنويعها .
ولاختلاف ذلك وقع التعارف ، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضربًا واحدًا لوقع التجاهل والالتباس ، ولتعطلت مصالح كثيرة ، وربما رأيت توءمين يشتبهان في الحلية ، فيعروك الخطأ في التمييز بينهما ، وتعرف حكمة اللّه في المخالفة بين الحلىّ ، وفي ذلك آية بينة حيث وُلِدوا من أب واحد ، وفرّعوا من أصل فذ ، وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا اللّه مختلفون متفاوتون .
- يقول الملك تبارك وتعالى : ” وَمنْ آياته مَنامُكُمْ باللَّيْل وَالنَّهار وَابْتغاؤُكُمْ منْ فَضْله إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَسْمَعُونَ “. (الروم : 23)
وهنا وقفة بلاغية ؛ يقول أحد المتخصصين في اللغة عن هذه الآية الكريمة :
هذا من باب اللفّ وترتيبه : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، إلا أنه فصل بين القرينين الأوّلين بالقرينين الآخرين ؛ لأنهما زمانان .. والزمان والواقع فيه كشيء واحد ، مع إعانة اللفّ على الاتحاد .
ويجوز أن يراد : منامكم في الزمانين ، وابتغاؤكم فيهما ، والظاهر هو الأول لتكرّره في القرآن ، وأَسَدّ المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية .
- ويقول جل شأنه : ” وَمنْ آياته يُريكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزّلُ منَ السَّماء ماءً فَيُحْيي به الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتها إنَّ في ذلكَ لَآياتٍ لقَوْمٍ يَعْقلُون “. (الروم : 24)
فيه وجهان ، أحدهما : أن المفعولين فاعلون في المعنى ، لأنهم راءون ، فكأنه قيل : يجعلكم رائين البرق خوفًا وطمعًا .
والثاني : أن يكون على تقدير حذف المضاف ؛ أي : إرادة خوف وإرادة طمع ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه .
ويجوز أن يكونا حالين ؛ أي : خائفين وطامعين .
وقرئ : ينزل بالتشديد .
- يقول تبارك وتعالى : ” وَمنْ آياته أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بأَمْره ثُمَّ إذا دَعاكُمْ دَعْوَةً منَ الْأَرْض إذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ في السَّماوات وَالْأَرْض كُلٌّ لَهُ قانتُونَ “. (الروم : 25-26)
وَمنْ آياته قيام السماوات والأرض واستمساكهما بغير عمد بأَمْره أي بقوله : كونا قائمتين .
والمراد بإقامته لهما : إرادته لكونهما على صفة القيام دون الزوال .
وقوله إذا دَعاكُمْ بمنزلة قوله : { يريكم } في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى ، كأنه قال : ومن آياته قيام السماوات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة : يا أهل القبور : اخرجوا .
والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث .
وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بثم ، بيانًا لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور ، قوموا ، فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر ؛ كما قال تعالى : ” ثُمَّ نُفخَ فيه أُخْرى فَإذا هُمْ قيامٌ يَنْظُرُونَ “.
- قال الله عز وجل : ” وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى في السَّماوات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ “. (الروم : 27)
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه فيما يجب عندكم ويُقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم ؛ لأنّ من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها ، وتعتذرون للصانع إذا أخطأ في بعض ما ينشئه بقولكم : ( أوّل الغزو أخرق ) ، وتسمون الماهر في صناعته معاودًا ، تعنون أنه عاودها كرّة بعد أخرى ، حتى مرن عليها وهانت عليه .
– الآيات مجتمعة :
قال الله الملك الحق :
” وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ * وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ * وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ مَنَامُكُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبۡتِغَآؤُكُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ * وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ يُرِيكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَيُحۡيِۦ بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ * وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَن تَقُومَ ٱلسَّمَآءُ وَٱلۡأَرۡضُ بِأَمۡرِهِۦۚ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمۡ دَعۡوَةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ إِذَآ أَنتُمۡ تَخۡرُجُونَ * وَلَهُۥ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلّٞ لَّهُۥ قَٰنِتُونَ * وَهُوَ ٱلَّذِي يَبۡدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَيۡهِۚ وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ “. ﴿الروم : 20-27﴾
سبحانك .. سبحانك .
لا أُحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك .