عن الإسلام ونبي الإسلام ( من فرائد الجرائد ) 1
عن الإسلام ونبي الإسلام ( من فرائد الجرائد ) :
- هذه مقالة للأستاذ / عمرو الديب بجريدة الأخبار ، تتحدث عن تواضع الرسول وتسامحه وعفوه يوم فتح مكة .. كتب يقول :
يترقرق الدمع في العين ، حين تتأمل الأخيلة مشهد الظافر يتهادى علي ناقته في سكينة الواثق ، ووداعة المصطفين الأخيار ، يتقدم ومن حوله عشرة آلاف مقاتل ينتظرون أي أمر من فمه الطاهر ؛ لينقضوا علي هؤلاء الذين أذلوهم طويلًا ، وأذاقوهم الهوان مرارًا ، ونهبوا أموال الكثير منهم ، واغتصبوا ممتلكات ودور معظمهم ، ولم يكن ذاك الظافر والمنتصر المضيء وسطهم بعيدًا عما لاقاه صحبه الكرام وآل بيته الأطهار من الأذى والهوان ، فقد ناله الكثير من إهانات المتكبرين ومضايقات المعاندين .. هو الشريف النبيل الذي لم يعرف في صباه وشبابه سوى الاحترام من الجميع ، والتبجيل من كل مواطنيه لأصله النفيس ، ودماثة خلقه ، وأمانته المذهلة ، وصدقه الذي تُضرَب به الأمثال ، ويبلغ الأذى مداه حين يعتزم الرافضون قتله في ليلة شيطانية سوداء ، فيخرج من وطنه مطاردًا شريدًا مهددًا يكابد لوعات الغربة ووخزات البعاد ، ويؤلمه هجير الجحود والنكران ، ولكن ها هو ذا يعود اليوم منتصرًا مدججًا بقوة هائلة يحيط به مئات الرجال الأشداء المتأهبين لبذل المهج والدماء في سبيل طاعة أمره ، وإنفاذ كلمته ، وبدلًا من أن تمتليء نفسه بالزهو والخيلاء ، وهو يرى المدينة التي طردته مهزومة مرتعدة .. جاثمة ، تخاف ثأرات الذين استضعفوا من قبل ، وتخشى بأس المجروحين وقصاصهم العادل ، بكل المقاييس البشرية المعروفة في ذلك العصر ، بل والعصور الممتدة بعده إلي الآن .
كان يحق لهؤلاء الذين تجرعوا الذل والهوان عدوانًا وظلمًا أن يقتصوا لما نالهم ، وأن يملأ النصر نفوسهم فخرًا وكبرياء ، ولكن قائدهم الراكب علي ” القصواء ” ليس ككل البشر ، بل هو رحمة الله للعالمين ، فماذا فعل حين دخل مكة فاتحًا ظافرًا منتصرًا ؟ لقد توجه إلي المسجد الحرام وادعًا ، وسجد علي ناقته منحنيًا أمام الكعبة المشرفة ، وتواضع حتي اختلط الأمر علي السذج وبطيئي الفهم ، فظنوا أن المنتصر لايدرك مدى الظفر الذي حققه ، وفداحة الخسارة التي مني بها أعداؤه الذين هرعوا اليه يرتعدون متوجسين ينتظرون القصاص مما ألحقوه به وبصحبه ، فتلقوا سؤاله الهادئ وجلين : ماذا تظنون أني فاعل بكم ؟! فتحدرت الكلمات مرتعشة من أفواههم : أخ كريم وابن أخ كريم .. فأطلق النبي الكريم -صلي الله عليه وسلم- عبارته الخالدة التي لايزال صداها نغمًا في أسماع الأهوار : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، والتفت يسأل عن سدنة الكعبة ، وبعد أن حطم الأصنام التي لوثت أشرف بقاع الأرض أزمنة طويلة ، وطهر البيت للطائفين والساعين والركع السجود ، أعاد الرسول الأعظم -صلي الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة المطهرة إلى خدامها الذين توارثوا هذا الشرف جيلًا بعد جيل ، وقد أقر الهادي الأمور علي ما كانت عليه في هذا الشأن ، فهو لم يرد انقلابًا متهورًا يشيع الفوضى ، أو ثورة هوجاء تطيح بنعمة الأمن والسكينة ، وتهدد أرواح الناس وأرزاقهم ، وتريق دماءهم ، تزلزل كيانهم وحركة حياتهم ، فغاية هم أشرف مبعوث أن يقبل المرسل إليهم ذلك النور الذي جاء به لينير طريقهم ، فيمتثلوا لأمر خالقهم ، ويسيروا في دروبه الممهدة ، ولا شيء بعد ذلك ، ولهم أن يعودوا إلى أنماط حياتهم التي ارتضوها لمعيشتهم ما دامت لا تتصادم مع الأوامر الإلهية ، ولا تخرج عن إطارات الفطرة السوية ، ولأن النبي محمدًا -صلى الله عليه وسلم- جاء فاتحًا للقلوب قبل البلاد ، ليخضع النفوس لسلطان بارئها لا الهياكل والأبدان ، فقد كان محمد يربت علي الأكتاف كأب يريد لأبنائه وبناته كل الخير ، يرحم ضعفهم ويتفهم نقصهم ، ونوازع بشريتهم الواهنة ، وما جاء ليستنزف خيراتهم ، ويبتلع ثرواتهم ، بل قدم إلى مكة هاديًا طبيبًا لجراح النفوس وحيرتها وتيهها ، لذا لم ينظر إلى القوة التي صارت ملك يمينه طريقًا لاستعباد الشعوب ، وإخضاع الرقاب ، ونهب الأرض ، وسلب الثروة تحت أسنة الرماح والشعارات البراقة الكاذبة ، وكان يعلم -صلى الله عليه وسلم- بوحي من ربه أن أيامه الباقية على ظهر الحياة الفانية معدودة ، فأراد أن يترك الدرس حيًّا نابضًا مثلًا مضيئًا لأجيال البشرية المتوالية ، فالقوة الغاشمة العمياء التي لا تخدم قضية نبيلة هي الشر المحض الأبشع ، وأن غياب التسامح هو الجحيم الأرضي الدنيوي بعينه ، وعلى الإنسان الذي استضاء بنور ربه أن يعفو إذا قدر وأن يرتفع عن الدنيا اذا انتصر ، وأن يترفق إذا تمكن وأن يترقق قلبه إذا ظفر وعلا ، لذا لم أستغرب أن يبهر مشهد دخول النبي الكريم -صلي الله عليه وسلم- الباب مئات المفكرين الغربيين والمستشرقين المنصفين علي مدى العصور ، وقد توقفت عند هذا المشهد الرائع عالمة اللاهوت الأمريكية ” كارين أرمسترونج ” في كتابها ” محمد ” الذي قدمت فيه السيرة النبوية الشريفة بعين غربية منصفة محبة متفهمة وتدل علي ذلك قراءتها العميقة لمشهد الفتح الأعظم ، ونفاذها إلى أدق معانيه وأعمق دلالاته ، ففي هذا الكتاب الرائع -الذي صدرت ترجمته العربية كباكورة لسلسلة إصدارات ” سطور ” التي ترأس مجلس إدارتها الدكتورة فاطمة نصر ، بقلم الناقد والمترجم الكبير الدكتور محمد عناني- نتيقن من حقيقة أنه كلمات كانت المرايا مصقولة مبرأة من ضباب التعصب ، وغبار الحقد ، سطعت عليها الحقيقة باهرة أخاذة ، بعيدًا عن هؤلاء الذين يخافونها لأنها تفضح كذبهم ، وتدين تطرفهم فالذين يخافون محمدًا -صلي الله عليه وسلم- هم هؤلاء المتعصبون الأدعياء سواء من التتار الجدد أو من الخوارج المحدثين الذين بات العالم تعسًا جدًا بين شقي رحاهم الكئيبة .
ندعوكم لقراءة : عن الإسلام ونبي الإسلام ( من فرائد الجرائد ) 2
- وتحت عمود ” يوميات ” للأستاذ / أحمد بهاء الدين الذي كتب يقول :
لا يشعر المرء حقًّا بمعجزة اختيار الله محمدًا ليكون نبيًا ورسولًا ، كما يشعر حين ذهب إلى مكة ، وبعد تأدية المناسك يجلس في صحن المسجد الحرام ويتأمل ويتخيل عبر القرون ، هذه المساحة الصغيرة التي لا تزيد عن مساحة ” ميدان التحرير ” مثلًا ، هي كل ” مكة التاريخية ” قبل ألف وأربعمائة سنة .. ومن حولها جدار الجبال العالية ، السوداء المتجمعة في مكان لا يمكن أن تقسو عليه الطبيعة أكثر من ذلك ، وبتصور أنه كيف في هذا المكان كان ميلاد النبي ، ورسالته ، وجهاده ؟ .. ولو استطاع المرء -كما حاولت- أن ينسى ما يقع عليه بصره الأن من مبان وسكان ، ويستمد من قراءاته صورة لهذا البيت العتيق وما حوله وتخيل محمدًا وكل الأبطال من الصحابة وغيرهم يجاهدون في هذا المكان .. لشعر بالمعجزة حقًّا .. أو ليتصور المرء تلك القبائل البدائية قبل ألف وأربعمائة سنة ، وكيف ” استأنس ” النبي وحشيتها ، ثم لقنها بكل شيء من الإيمان إلى أصغر شئون الدنيا ، ولذلك نجد محمدًا رسول الله المبعوث الوحيد الذي تحدث إلى الناس حتى في أصغر أمور معاشهم أنه هنا لا يبلغ رسالة إلهية فقط ، ولكنه يربي شعبًا .. يربيه في سلوكياته ومعاملاته وانتظامه ؛ لذلك نجد أن العرب الذين خرجوا في جيوش الفتح الإسلامي ، وكأنهم غير العرب الذين عاشوا الجاهلية والتحلي بكل قيمها .. وهنا يبرز عنصر الزعامة في محمد بشكل لا نجد له نظيرًا لدى أي زعيم دنيوي .. وإن كان كل زعيم ناجح عليه أن يقتدي به فهو يلقنهم السلوكيات إلى درجة خفض الصوت في المناسبات التي تقضي ذلك إلى تعليمهم أن النظافة من الإيمان .
إن القرآن -وكذلك أي قانون دنيوي- لا يطبق بنفسه ، ولكن يطبقه مؤمن حتى النخاع ومن هنا صنع محمد الشعب القليل العدد ؛ كي يفتح أكبر إمبراطورية في أقصر زمن .
هذا بعض ما طاف بخاطري يوم مولد النبي .
كيف علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحابته وكيف رباهم ؟
- يقول الأستاذ عمرو الديب :
ولقد وعى الخلفاء والصحابة تعاليم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فطبقوا هذا التسامح مع غير المسلمين ، وطبقوا معهم العدل بأسمى معانيه لدرجة أن الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عندما سقطت درعه وجدها عند رجل نصراني فاختصما إلى القاضي شريح ، فقال علي -رضي الله عنه- الدرع درعي ، ولم أبع ولم أهب ، فسأل القاضي الرجل النصراني في قول أمير المؤمنين ؟
فَقَالَ الرجل : مَا الدِّرْعُ إلاّ دِرْعِيْ ، وَمَا أميْرُ المُؤمِنينَ عِنْدِيْ بِكاذِبٍ ، فضحك فَالْتَفَتَ شُرَيْحٌ إلى عَلَىّ بْنِ أِبيْ طَالِبٍ ، يسأله : يا أمير المؤمنين : هل لك بينة ؟ فَضَحِكَ أمير المؤمنين ، وَقَالَ : أصَابَ شُرَيْحٌ مَالِي بينة .. وقَضَى القاضي للرجل الكتابي بالدرع ، فأخذها ولم يمش قليلًا إلا وعاد يقول : أمَّا أَنَي فَأَشْهَدُ هَذِهِ أَحْكَامُ أنْبِيَاءِ ، أمِيْرُ المُؤمِنِيْنَ يُدْنْيِنْي إلى قَاضِيْهِ فيَقْضِيْ لي عَلَيْهِ .
أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ الله ، الدِّرْعُ دِرْعُكَ يَا أَمِيْرَ المُؤمنْينَ انبَعْتُ الجَيْشَ وأنْتَ مُنْطَلِقٌ من صِفِينَ فَخَرَجَتْ مِنْ بَعْيِركَ الأَوْرَقِ ، فَقَالَ علي -رضي الله عنه- : ” أما إذَا أسلَمْتَ فهِيَ لَكَ “.
هكذا شهدت ساحة القضاء والعدالة وإنصاف من معه حجة حتى ولو كان الخصم له أمير المؤمنين ، ومع أن أمير المؤمنين كان على حق ولكن الحكم بالظاهر قضى عليه وليس له حتى اعترف الرجل بأن الدرع درع أمير المؤمنين ، وأيقن أن هذه الأحكام لا تكون إلا أحكام النبوة الحقيقية ودخل الإسلام ، وعندئذ تنازل له عنها على بن أبي طالب -رضي الله عنه- .
ومن أشهر صور العدالة التي طبقها خلفاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما فعله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع ابن والي مصر ، وهو عمرو بن العاص عندما سبق القبطي ابن عمرو فضربه ابن عمرو ، قائلًا : أنا ابن الأكرمين ، فلما ذهب القبطي إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المدينة وشكا إليه ما جرى ، استدعى الخليفة عمرو بن العاص وابنه وأعطى السوط إلى ابن القبطي وقال له اضرب ابن الأكرمين فلما ضربه ، قال له عمر : أدرها على صلعة عمرو فإنما ضربك بسلطانه ، فقال القبطي إنما ضربت من ضربني ثم التفت إلى عمرو قائلًا : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ بل إن الإسلام حقق التأمين لأهل الكتاب عند الفقر والمرض والشيخوخة .. فعندما رأى عمر شيخًا من اليهود يسأل الناس ، فلما سأل عمر عن ذلك عرف أن الذي ألجأه إلى السؤال هو الفقر والشيخوخة ، فأخذه عمر وذهب به إلى خازن بيت المال وفرض له ولنظرائه في بيت المال ما يكفيهم قائلًا : ما أنصفناك إذا أكلنا شبيبتك وأهملناك عند الهرم .. وشهد التاريخ دفاع المسلمين وحمايتهك لأهل الكتاب لدرجة أن الإمام ابن تيمية حينما تغلب التتار على الشام وسمح القائد التتري بإطلاق أسرى المسلمين وأبى أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة ، فما كان من ابن تيمية إلا أن قال : لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسارى من اليهود والنصارى فهم أهل ذمتنا ولا ندع أسيرًا لا من أهل الذمة ولا من أهل الملة ، فلما رأى إصراره أطلقهم جميعًا .. وإن الإسلام إذا يحرم العدوان على أهل الكتاب فإنه في الوقت نفسه يحرم عدوان المسلمين على بعضهم أو عدوان غيرهم عليهم حتى يسود السلام الاجتماعي ، ويسود الأمان والاطمئنان في الأرض ، ولأن صور الفتن الطائفية تسيء إلى الطرفين وإلى الأديان ، لذا وجب على جميع الأفراد والمجتمعات أن يحسنوا علاقتهم وأن يوثقوا صلاتهم وأن يترابطوا ويتوحدوا بروح الأخوة الإنسانية فكلنا أبناء آدم ، ننتمي إلى أب واحد وإلى أم واحدة .
أدعو الله تعالى أن يصون أمتنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وبالله التوفيق .