من رحيق كلامهم

مع الإمام الشافعي

نعيش مع كلام رقراق ، لذلكم العملاق ، الذي طبقت شهرته الآفاق .
مع الإمام الشافعي ، الذكي الألمعي ، التقي النقي .

– قال الشافعي عن القرآن :

” حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين ، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين “.

– ومن أقواله الرائعة :

” من تعلم القرآن عظمت قيمته ، ومن كتب الحديث قويت حجته ، ومن نظر في الفقه نَبُلَ قَدْرُه ، ومن نظر في اللغة رق طبعه ، ومن نظر في الحساب جزل رأيه “.

– وعندما أراد السفر إلى مصر ، قال :

لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر … ومن دونها قطعُ المهامة والفقرِ

واللهِ ما أدري الفوزُ والغِنَى … أُسَاقُ إليها أم أُسَاقُ إلى القبرِ

– المحب لمن يحب مطيع :

قال في هذا :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه … هذا مُحالٌ في القياس بديعُ

لوكان حبك صادقًا لأطعته … إن المُحبَّ لمن يحب ُمطيعُ

في كل يومٍ يبتديك بنعمةٍ … منه وأنت لشكر ذاك مضيعُ

– هذه هي الدنيا :

قال الشافعي رحمه الله :

تموت الأسد في الغابات جوعًا … ولحم الضأن تأكله الكــلابُ

وعبدٌ قد ينام على حريـــر … وذو نسبٍ مفارشه التــرابُ

– وهذه دعوته إلى التنقل والترحال :

ما في المقام لذي عـقـل وذي أدبِ … من راحة فدع الأوطان واغتـربِ

سافر تجد عوضًـا عمن تفارقــه … وانْصَبْ فإن لذيذ العيش في النَّصبِ

إني رأيت ركـود الـماء يفســده … إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطبِِ

والأُسْد لولا فراق الغاب ما افترست … والسهم لولا فراق القوس لم يصبِ

والشمس لو وقفت في الفلك دائمة … لملَّها الناس من عجم ومن عـربِ

والتِّبرُ كالتُّـرب مُلقى في أماكنـه … والعود في أرضه نوعٌ من الحطبِ

فإن تغرّب هـذا عـَزّ مطلبـــه … وإن تغرب ذاك عـزّ كالذهــبِ

– الضرب في الأرض :

ويقول في هذا الصدد :

سأضرب في طول البلاد وعرضها … أنال مرادي أو أموت غريبـا

فإن تلفت نفسي فلله درهــــا … وإن سلمت كان الرجوع قريبا

– آداب التعلم :

الشافعي معلم قدير ؛ لذا ينصح المتعلم قائلًا :

اصبر على مـر الجفـا من معلم … فإن رسوب العلم في نفراته

ومن لم يذق مر التعلم ساعــة … تجرع ذل الجهل طول حياته

ومن فاته التعليم وقت شبابــه … فكبِّر عليه أربعًا لوفاتــه

وذات الفتى والله بالعلم والتقى … إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته

– السكوت من ذهب :

متى يكون السكوت من ذهب أيها الإمام المعلم ؟
يجيبنا الشافعي قائلًا :

إذا نطق السفيه فلا تجبه … فخيرٌ من إجابته السكوتُ

فإن كلمته فـرّجت عنـه … وإن خليته كـمدًا يمـوتُ

– وعن الصديق الصدوق يقول الإمام :

إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا … فدعه ولا تكثر عليه التأسفا

ففي الناس أبدالٌ وفي الترك راحةٌ … وفي القلب صبرٌ للحبيب وإن جفا

فما كل من تهواه يهواك قلبه … ولا كُلُّ من صافيته لك قد صفا

إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة … فلا خير في ود يجيء تكلفا

ولا خير في خِلٍّ يخون خليله … ويلقاه من بعد المودة بالجفا

وينكر عيشًا قد تقادم عهده … ويظهر سِرًّا كان بالأمس قد خفا

سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها … صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد منصفا

– العفو برأي الشافعي :

قال رحمه الله :

لما عفوتُ ولم أحقد على أحدٍ … أرحت نفسي من هم العداواتِ

إني أُحَيّي عدوي عند رؤيتـه … أدفع الشر عنـي بالتحيـاتِ

وأُظهر البِشْرَ للإنسان أبغضه … كما أن قد حشى قلبي محباتِ

الناس داءٌ ودواء الناس قربهم … وفي اعتزالهم قطع المـوداتِ

– الإعراض عن الجاهلين :

يقول الإمام العَلَم رحمه الله :

أعرض عن الجاهل السفيه … فكل مـا قـال فهـو فيـه

ما ضر بحر الفرات يومـًا … إن خاض بعض الكلاب فيه

– كيف يخاطب السفيه ؟

يرد الشافعي بقوله المبدع :

يخاطبني السفيه بكل قبحٍ … فأكره أن أكون له مُجيبا

يزيد سفاهةً فأزيد حلمًا … كعودٍ زاده الإحراق طيبا

– الشافعي والأيام :

يقول الإمام الهمام ، عالي المقام :

دع الأيام تفعل ما تشاء … وطب نفسًا إذا حكم القضاء

ولا تجزع لحادثة الليالي … فما لحوادث الدنيا بقاء

وكُنْ رجلًا على الأهوال جَلْدًا … وشيمتك السماحة والوفاء

وإن كثرت عيوبك في البرايا … وسَرَّك أن يكون لها غطاء

تستر بالسخاء فكل عيبٍ … يغطيه كما قيل السخاء

ولا تُرِ للأعادي قَطُّ ذلًا … فإن شماتة الأعدا بلاء

ولا ترجُ السماحةَ من بخيلٍ … فما في النار للظمآن ماء

ورزقك ليس ينقصه التأني … وليس يزيد في الرزق العناء

ولا حزنٌ يدومُ ولا سرورٌ … ولا بؤسٌ عليك ولا رخاء

إذا ما كنت ذا قلبٍ قنوعٍ … فأنت ومالك الدنيا سواء

ومن نزلت بساحته المنايا … فلا أرضٌ تقيه ولا سماء

وأرض الله واسعةٌ ولكن … إذا نزل القضا ضاق الفضاء

دع الأيام تغدر كل حينٍ … فما يُغني عن الموت الدواء

ندعوكم لقراءة : هــــــــي الجــــنـــــــــة 1

– استعن بالله :

كان رحمه الله لا يحب الوقوف على أبواب الملوك والسلاطين ، وفي هذا يقول :

إن الملوك بـلاءٌ حيثما حـلـوا … فلا يكن لك في أبوابهم ظــلُّ

ماذا تؤمل من قومٍ إذا غضبـوا … جاروا عليك وإن أَرْضَيتَهم ملوا

فاستعن بالله عن أبوأبهم كرمًـا … إن الوقوفَ على أبوابهــم ذلُّ

– وعند الله المخرج :

كان يثق في ربه ومولاه ثقة كبيرة ، ويُحسن الظن به سبحانه ، يقول لله دره :

ولرب نازلة يضيق لها الفتى … ذرعًا وعند الله منها المخرجُ

ضاقت فلما استُحكمت حلقاتها … فُرِجَت وكنت أظنها لا تُفرجُ

– ويناجي ربه قائلًا :

قلبي برحمتك اللهم ذو أنس … في السر والجهر والإصباح والغلسِ

ما تقلبت من نومي وفي سنتي … إلا وذكرك بين النَّفَسِ والنَّفَسِ

لقد مننتَ على قلبي بمعرفةٍ … بأنك الله ذو الآلاء والقدسِ

وقد أتيت ذنوبًا أنت تعلمها … ولم تكن فاضحي فيها بفعل مسي

فامنن عليّ بذكر الصالحين ولا … تجعل عليّ إذا في الدين من لبسِ

وكن معي طول دنياي وآخرتي … ويوم حشري بما أنزلت في عبسِ

– مَا حَكَّ جِلدَك مثل ظُفرُك :

ما أروع ما قال الشافعي في هذا الصدد ، فقد أبدع بقوله :

ما حك جلدك مثل ظفرك … فتـولَ أنت جميع أمرك

وإذا قصدت لحـاجــة … فاقصد لمعترفٍ بفضلك

– فسادٌ كبير :

يقول الإمام العَلَم :

فســادٌ كبيـر عالمٌ متهتك … وأكبر منه جـاهلٌ متنسك

هما فتنةٌ في العالمين عظيمةٌ … لمن بهما في دينه يتمسك

– العيب فينا :

يبدع الشافعي حينما يكشف عيوبنا ، فيقول :

نعيب زماننا والعيب فينا … وما لزمانا عيبٌ سوانا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنبٍ … ولو نطق الزمان لنا هجانا

وليس الذئبُ يأكل لحم ذئبٍ … ويأكل بعضُنا بعضًا عيانا

– العلم يرفع القدر :

يا له من معلم ، يقول رحمه الله:

تَعَلَّم فليس المرء يُولد عالـمـًـا … وليس أخو علمٍ كمن هو جاهـلُ

وإن كبيرَ القومِ لا علم عـنـده … صغيرٌ إذا التفت عليه الجحافلُ

وإن صغيرَ القومِ إن كان عالمًا … كبيرٌ إذا رُدَّت إليه المحـافـلُ

– إدراك الحكمة :

ها هو الإمام العَلَم الحكيم يقول عن الحكمة :

لا يُدرك الحكمة من عمره … يكدح في مصلحة الأهـلِ

ولا ينــال العلم إلا فتى … خالٍ من الأفكار والشغـلِ

لو أن لقمان الحكيم الذي … سارت به الركبان بالفضلِ

بُلِيَ بفقرٍ وعـيـالٍ لمـا … فَرَّق بين التبن والبقــلِ

– الدعاء :

وعن سهام الليل يقول :

أتهزأُ بالدعــاءِ وتزدريــه … وما تدري بما صنع القضــاءُ

سهــام الليل لا تخطــي … لها أمدٌ وللأمــدِ انقضـاءُ

– وعن الرزق يقول الشافعي :

تَوَكّلْتُ في رزقي على الله خَالقِي … وأيْقَنْتُ أنَّ الله لا شَكَّ رَازقِي

ومَا يَكُ مِنْ رزقٍ فَليْسَ يَفُوتُني … ولوْ كانَ في قاعِ البِحَار العَوامِقِ

سَيأتي بِهِ اللهُ العَظيمُ بِفَضْلِه … ولوْ لمْ يَكُنْ مِنّي اللسَانُ بِنَاطِقِ

فَفِي أيّ شَيءٍ تذهَبُ حَسْرةً … وقَد قَسَمَ الرَّحْمَنُ رزقَ الخلائقِ

– بين الشافعي وإسماعيل المزني :

في قصيدة الإمام الشافعي ، التي تحدث عن مناسبتها إسماعيل بن يحيي المزني بقوله :
دخلتُ على الشافعي في مرضه ، الذي مات فيه فقلت : كيف أصبحت ؟
قال أصبحت من الدنيا راحلًا ، وللإخوان مفارقًا ، ولكأس المنية شاربًا ، وعلى الله جلّ ذكره واردًا ، ولا واللهِ ما أدري روحي تصير إلى الجنة أم إلى النار ؟
ثم بكى وأنشد يقول :

إليك إله الخلق أرفع رغبتي … وإنْ كنتُ يا ذا المنِّ والجودِ مجرمَا

وَلَمَا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي … جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلّمَا

تَعَاظمَنِي ذنبي فَلَمَّا قَرنْتُه … بِعَفْوكَ رَبي كَانَ عَفْوكَ أَعْظَما

فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ … تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا

فيا ليت شعري هل أصير لجنةٍ … أهنأ وإما للسعير فأندما

– وفاته :

تُوفي الشافعي ، في آخر ليلة من رجب سنة 204 هـ ، وقد بلغ من العمر أربعة وخمسين عامًا .
قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري : « وُلد الشافعي سنة خمسين ومائة ، ومات في آخر يوم من رجب ، سنة أربع ومائتين ، عاش أربعًا وخمسين سنة ».
قال الربيع بن سليمان : « تُوفي الشافعي ليلة الجمعة ، بعد العشاء الآخرة بعدما صلى المغرب آخر يوم من رجب ، ودفناه يوم الجمعة ، فانصرفنا ، فرأينا هلال شعبان ، سنة أربع ومائتين ».

– قالوا عن الإمام الشافعي :

لقد عُرف الإمام الشافعي بالنجابة والذكاء والعقل منذ أن كان صغيرًا ، وشهد له بذلك الشيوخ من أهل مكة ؛ قال الحميدي : ” كان ابن عيينة ، ومسلم بن خالد ، وسعيد بن سالم ، وعبد المجيد بن عبد العزيز ، وشيوخ أهل مكة يصفون الشافعي ويعرفونه من صغره ، مقدمًا عندهم بالذكاء والعقل والصيانة ، لم يُعرف له صبوة “.

وقال الربيع بن سليمان -تلميذ الشافعي وخادمه وراوي كتبه- : ” لو وُزِن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم ، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه “.

وكما كان الإمام الشافعي ( رحمه الله ) إمامًا في الاجتهاد والفقه ، كان كذلك إمامًا في الإيمان والتقوى والورع والعبادة ؛ فعن الربيع قال : ” كان الشافعي قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء : الثلث الأول يكتب ، والثلث الثاني يصلي ، والثلث الثالث ينام ” .. وكان رحمه الله لا يقرأ قرآنًا بالليل إلا في صلاة ، يقول المزني : ” ما رأيت الشافعي قرأ قرآنًا قَطُّ بالليل إلا وهو في الصلاة “.

قال المزني : ” ما رأيت أحسن وجهًا من الشافعي ، إذا قبض على لحيته لا يفضل عن قبضته ” .. قال يونس بن عبد الأعلى : ” لو جمعت أمة لوسعهم عقل الشافعي “.

وقال إسحاق بن راهويه : ” لقيني أحمد بن حنبل بمكة ، فقال : تعالَ حتى أريك رجلًا لم ترَ عيناك مثله ..
قال : فأقامني على الشافعي “.

وقال أبو ثور الفقيه : ” ما رأيت مثل الشافعي ، ولا رأى مثل نفسه “.

  • قال عنه ابن كثير الدمشقي :

” كان الشَّافعي في صِغَرهِ ذا قريحةٍ وهمَّةٍ عظيمة ، فقد حفِظَ القرآن الكريم والموطَّأ ولهُ عشرُ سنين ، وأنَّه عُنِي بالأدب والشِّعْر واللُّغة بُرهة من عُمْرِه ، ثمَّ أقبل على الفِقه فبَرَزَ فيه على أقرانه ، وكانَ مع ذلك أعلمُ النَّاسِ بالسِّيرِ والمغازي وأيَّام العَرب ووقائعها وأيَّام الإسلام ، ومِن أَحسَن النَّاسِ رَمياً بالنَشَّاب ، وأنَّهُ كان يُصيب من العَشرةِ عشرة “.

  • وقال أحمد بن أبي سريج :

” ما رأيت أحدًا أفوه ، ولا أنطق من الشافعي “.

  • قال الجاحظ :

” نظرت في كتب هؤلاء المرأة الذين تابعوا في العلم ، فلم أرَ أحسن تأليفًا من المطلبي ( الشافعي ) ، كأن كلامه درًا إلى در “.

  • قال عنه الإمام الذهبي :

” كان حافظًا للحديث بصيرًا بعلله ، لا يقبل منه إلا ما يثبت عنده ، ولو طال عمره لازداد منه “.

  • وهذا صاحبه المقرب الإمام أحمد بن حنبل ، يقول عنه :

” ما مَسَّ أحدٌ محبرةً ولا قلمًا إلّا الشافعي في عنقه منه “.

وقال أيضًا : ” كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس “.

رحم الله الإمام الشافعي رحمة واسعة ، وأسكنه الفراديس العُلا في الجنة .

( أهم المراجع : ديوان الشافعي / تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي / دار ابن زيدون / بيروت ).

زر الذهاب إلى الأعلى