من عبق التاريخ

ملوك الأرض

قالوا قديمًا عن ملوك الأرض : مَلَكَ الدنيا مؤمنان وكافران .

قال ابن جرير الطبري في التفسير : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : سليمان بن داود وذو القرنين ، والكافران : بختنصر ونمرود بن كنعان ، لم يملكها غيرهم .

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أثر مجاهد ، ولم يتعقبه بشيء ، كما في مجموع الفتاوى : قال مجاهد : ملك الأرض مؤمنان وكافران ؛ فالمؤمنان : سليمان ، وذو القرنين ، والكافران : بختنصر ، ونمرود .. وسيملكها خامس من هذه الأمة . (انتهى)

فالأقرب أن الأثر من كلام مجاهد -رحمه الله- .

أولًا : سليمان عليه السلام :

هو أحد أنبياء الإسلام حسب ما ورد في القرآن في سورة سبأ وص والنمل وسورة البقرة والأنعام وسورة الأنبياء مع اختلافات في جوانب القصة العبرية وتأكيد للحكمة والثراء والملك الذي لم يؤت أحد مثله .

وكما جاء في القرآن الكريم ، فإن سليمان تعلم منطق الطير والحيوانات والحشرات ، وله جن وعفاريت مسخرين لخدمته وطاعته .

سليمان هو أحد أنبياء الله في الإسلام وقد ذكر ملكه القرآن الكريم ، ونسب إليه جيشًا من الوحش والطير والجن والبشر وصفات أخرى مثل قدرته على فهم منطق جميع الكائنات بما فيها النمل .

قال الله تعالى على لسان سليمان عليه السلام :
” وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ” ، أي من كل ما يحتاج الملك إليه من العدد والآلات والجنود والجيوش والجماعات من الجن والإنس والطيور والوحوش والشياطين السارحات والعلوم والفهوم والتعبير عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات .. ثم قال : ” إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْمُبِينُ ” ، أي من بارئ البريات وخالق الأرض والسموات .. كما قال تعالى : ” وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ “. (الآيات من سورة النمل)

  • قصة سليمان والنملة :

يذكر القرآن الكريم حادثة لسليمان مع نملة ، حيث إنه ركب يومًا في جيشه جميعه من الجن والإنس والطير ، فالجن والإنس يسيرون معه ، والطير سائرة معه تظله بأجنحتها من الحر وغيره ، وعلى كل من هذه الجيوش الثلاثة وزعة -أي نقباء- يردون أوله على آخره ، فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسير فيه ولا يتأخر عنه كذلك : ” حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ” (سورة النمل : 18) .. فأمرت وحذرت واعتذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور .

ولعل الله تعالى أراد أن يعلم سليمان عليه السلام أن لله ممالك عظيمة وإن كانت صغيرة الحجم لا يهتم بتحطيمهم من يمر عليهم ، فأراد سبحانه أن لا يكون في نفس سليمان في ملكه الواسع العريض شيء من الافتخار والعجب .

وقد فهم سليمان ما خاطبت به تلك النملة ، فالنملة لها سلطان ودولة وجنود وهي تقوم بحراستهم وإبعادهم عن الشر ومواقع الخطر ، فتبسم من ذلك على وجه الرضا والفرح بقول النملة ، وعرف أن الله يختبره ، ففزع يدعو الله أن يوفقه لشكره بما أنعم عليه وعلى والديه ، وأن يعمل عملًا يرضي الله ، وأن يدخله مع عباده الصالحين بأن ييسر له السير على منهجهم .

وقال عبدالرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، أن سليمان خرج هو وأصحابه يستسقون فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها تستسقي فقال لأصحابه : ارجعوا فقد سقيتم ؛ إن هذه النملة استسقت فاستُجيب لها .

  • هدهد سليمان وملكة سبإ :

قال الله الملك الحق :
” وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ “. (النمل : 20-44)

ثانيًا : ذو القرنين :

قال تعالى : ” وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ ” ، السائل هنا قريش ، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين ، وكانت قصته مشهورة ، ولا سيما عند أهل الكتاب ، وهو ملك صالح كان على عهد الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ويقال : إنه طاف معه بالبيت ، فالله أعلم ، هذا الرجل الصالح مكن الله له في الأرض ، وآتاه من أسباب الملك كل سبب يتوصل به إلى الانتصار ، وقهر أعدائه .. ” فَأَتْبَعَ سَبَبًا ” ، يعني : سلك طريقًا يوصله إلى مقصوده ، ” حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ” ، فاستولى عليهم ، وخيَّره الله فيهم : ” قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ” ، فحكم بينهم بالعدل : ” قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ” ، ثم مضى متجهًا نحو مطلع الشمس : ” حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ ” ، ليس لهم ستر يحول بينهم وبين حرها ، ليس عندهم بناء ، ولا أشجار ، وإنما يعيشون في النهار في السرادب وفي الكهوف ، ثم في الليل يخرجون يلتمسون العيش ، وكان الله عز وجل في جميع أحوال هذا الرجل عالمًا به ، يسير بعلم من الله عز وجل وهداية ، كما قال تعالى : ” وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ” ، ثم مضى : ” حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ” ، كانوا أعاجم لا تُفهم لغتهم ، ولا يفهمون لغة غيرهم ، ولكنهم اشتكوا إلى هذا الملك الصالح إلى ذي القرنين بأن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ، وهما أمتان من بني آدم ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ، وتُذكر روايات وأخبار إسرائيلية في هاتين الأمتين -أعني : في يأجوج ومأجوج- كلها لا أصل لها من الصحة ، وإنما يأجوج ومأجوج من بني آدم ، وعلى شكل بني آدم ، كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« يقول الله تعالى : -يعني يوم القيامة- يا آدم .. فيقول : لبيك وسعديك .. فيقول : أخرج من ذريتك بعث النار .. قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون كل في النار إلا واحدًا من الألف.. فكبر ذلك على الصحابة ، فقالوا : يا رسول الله ، أينا ذلك الواحد ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : أبشروا ، فإنكم في أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه ، يأجوج ومأجوج ».

وهذا دليل واضح وصريح على أنهم -أعني : يأجوج ومأجوج- سيكون شكلهم وأحوالهم كأحوال بني آدم تمامًا ، لكنهم من قوم طُبعوا -والعياذ بالله- على الفساد في الأرض ، وتدمير مصالح الخلق ، وقتلهم ، وغير ذلك ، مما يكون فسادًا في أرض الله عز وجل ، فقالوا له : ” فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ” ، أي : مالًا .. ” عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ” ، فأخبرهم بأن الله سبحانه وتعالى أعطاه من الملك والتمكين ما هو خير من المال الذي يعطونه إياه ، ” قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ” ، أي : بقوة عملية ، عمال وأدوات وما أشبه ذلك ، ” أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ” ، ثم طلب منهم زبر الحديد، أي : قطع الحديد ، فصف بعضها على بعض حتى بلغت رءوس الجبلين ، ” آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ ” ، فأوقدوا عليه النار ، ونفخوها حتى صار الحديد نارًا يلتهب ، فأفرغ عليه قطرًا ، أي : نحاسًا مذابًا ، حتى تماسكت هذه القطع من الحديد ، وصارت جدارًا حديدًا صلبًا ، ” فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ ” ، أي : يظهروا فوقه ، ” وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْبًا ” ، أي : أن ينقبوه من أسفل ، فكان ردمًا بين يأجوج ومأجوج .

أدعوكم لقراءة : بطل لم يُهزَم

ثالثًا : بختنصر :

كان بختنصر ملكًا على بلاد بابل في العراق ، ولكن قبل أن يصبح ملكًا كان قائد جيش جرار ؛ قوامه مائة ألف مقاتل ، وكان معروفًا للعالم بشراسته وقوته ، وذهب بجيشه إلى الشام ودمشق ؛ فخافه الدمشقيون ، وطلبوا الصلح ، وقدموا لبختنصر أموالًا عظيمة وجواهر كثيرة وكنوزًا ثمينة ؛ فوافق وترك دمشق وذهب إلى بيت المقدس .

وكان يحكم بيت المقدس ملك من نسل داود -عليه السلام- فخرج إلى البختنصر وقدم له الطاعة ، وطلب الصلح منه ، وأعطاه مثل ما أعطاه الدمشقيون ، بل وأخذ منهم الملك الكافر بعض أثرياء بني إسرائيل ، وعاد إلى بلاده وبعد أن انتهى فزع بني إسرائيل الذين أغلقوا أبوابهم عند قدوم البختنصر ، وقاموا إلى ملكهم واعترضوا على هذا الصلح ، وقتلوا ملكهم الذي هو من آل داود -عليه السلام- ونقضوا عهدهم مع بختنصر ، فعاد بختنصر إليهم ، فتحصنوا ضدهم ، ولكن بختنصر تمكن من اقتحام المدينة ، وقتل وخرّب فيها الكثير ، وذهب إلى القرى المجاورة وخربها وقتل أهلها ، وبقي بختنصر في بلادهم ، وأحرق ما وقع تحت يديه من التوراة ، وأبقى النساء والأطفال ليكونوا عبيدًا لأهل بابل ؛ حتى بلغ عدد الأطفال تسعين ألف طفل ، كان من بين الأطفال نبي الله عزير -عليه السلام- ، ولما وصل البختنصر بابل وزع الأموال والأولاد على أهل بابل حتى امتلأت بيوتهم بالخير .

(عن العلامة ابن عثيمين رحمه الله)

رابعًا : النمرود :

قال العلامة ابن باز في معنى قول الله تعالى : ” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (البقرة : 258)

قال عليه سحائب الرحمات :
هذه الآية واضحة لمن تأملها ، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن قد بعثه الله إلى قومه يدعوهم إلى توحيد الله وينذرهم الشرك بالله ، وكان في زمانه ملك يُقال له ” النمرود ” يدّعي أنه الرب وأنه رب العالمين ، وقد مُنح ملك الأرض فيما ذكروا .. فإن الأرض قد ملكها أربعة ، كافران وهما : ” النمرود ” هذا و ” بختنصر ” ومسلمان وهما : ” ذو القرنين ” و ” سليمان بن داود ” عليهما السلام .

فالحاصل أن هذا النمرود كان جبارًا عنيدًا ، وكان يدّعي المُلك ، ويدّعي أنه رب العالمين ، ويدّعي أنه يحيي ويميت ، فلهذا قال له إبراهيم : ( ربي الذي يحيي ويميت ) ، قال الخبيث النمرود : ( أنا أحيي وأميت ) ، وذكر المفسرون أنه ذكر لإبراهيم أنه يؤتى بالشخصين يستحقان القتل فيعفو عن واحد ويقتل الآخر ، ويزعم أن هذا هو معنى الإحياء والإماتة ، يعفو عمن استحق القتل فيقول : أحييته ، وهذه مكابرة وتلبيس ، فليس هذا هو المقصود ، وإنما المقصود أن يخرج من الحجر ومن النطفة ومن الأرض حيًّا بعد موت ، وهذا لا يستطيعه إلا الله جل في علاه ، فهو الذي يخرج النبات ويحيي النطف حتى تكون حيوانات ، فالمقصود أن هذا لا يستطيعه إلا الله ، ولكنه كابر ولبّس ، فانتقل معه إبراهيم إلى حجة أوضح للناس وأبْيَن للناس حتى لا يستطيع أن يقول شيئًا في ذلك ، فبيّن له عليه الصلاة والسلام أن الله يأتي بالشمس من المشرق فإن كنت ربًّا فأتِ بها من المغرب ، فبُهت ، واتضح للناس بطلان كيده ، وأنه ضعيف مخلوق لا يستطيع أن يأتي بالشمس من المغرب بدلًا من المشرق ، واتضح للناس ضلاله ومكابرته وصحة ما قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام . (انتهى)

وكان موت النمرود دليلًا على أنه لا يملك حولًا ولا قوة إلا بإذن الله ، فأرسل الله إليه جنديًا صغيرًا من جنوده ؛ هو الذباب فكانت الذبابة تزعجه حتى دخلت إلى رأسه ؛ فكانت لا تهدأ حركتها في رأسه حتى يضربوا هذا الملك الكافر بالنعال -أكرمكم الله- على وجهه ، وظل على هذا الحال حتى مات ذليلًامن كثرة الضرب على رأسه .

ونختم بقول مالك الملك والملكوت ، الحي الذي لا يموت :
” قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “. (آل عمران : 26)

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى