وبشر الصابرين
وبشر الصابرين :
الصبر لغةً :
الصَّبْـرُ نقيض الجَزَع ، صَبَرَ يَصْبِرُ صَبْـرًا فهو صابِرٌ وصَبَّار وصَبِيرٌ وصَبُور والأُنثى صَبُور أَيضًا بغير هاء وجمعه صُبُـرٌ .
وأَصل الصَّبْر الحَبْس وكل من حَبَس شيئًا فقد صَبَرَه ، والصبر : حبس النفس عن الجزع .
( الصحاح للجوهري ، ولسان العرب لابن منظور ).
الصبر اصطلاحًا :
الصبر هو حبس النفس عن محارم الله ، وحبسها على فرائضه ، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره .
وقيل هو : ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله .
وقيل الصبر : حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع ، أو عما يقتضيان حبسها عنه .
وقال ابن القيم :
الصبر : ثبات القلب على الأحكام القدرية والشرعية .
قال الله تعالى في محكم التنزيل :
” وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ “. (سورة البقرة : 155)
- قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتلي عباده بالمحن ؛ ليتبين الصادق من الكاذب ، والجازع من الصابر ، وهذه سنته تعالى في عباده ؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان ، ولم يحصل معها محنة ، لحصل الاختلاط الذي هو فساد ، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر .
هذه فائدة المحن ، لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان ، ولا ردهم عن دينهم ، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين ، فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ من الأعداء وَالْجُوعِ أي : بشيء يسير منهما ؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله ، أو الجوع ، لهلكوا ، والمحن تُمحِّص لا تُهلِك .
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية ،وغرق ، وضياع ، وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة ، وقطاع الطريق وغير ذلك .
وَالْأَنْفُسِ أي : ذهاب الأحباب من الأولاد ، والأقارب ، والأصحاب ، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد ، أو بدن من يحبه ، وَالثَّمَرَاتِ أي : الحبوب ، وثمار النخيل والأشجار كلها ، والخضر ببرد ، أو بَرَد أو حرق ، أو آفة سماوية ، من جراد ونحوه .
فهذه الأمور ، لا بد أن تقع ، لأن العليم الخبير ، أخبر بها ، فوقعت كما أخبر ، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين : جازعين وصابرين ، فالجازع ، حصلت له المصيبتان ، فوات المحبوب ، وهو وجود هذه المصيبة ، وفوات ما هو أعظم منها ، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر ، ففاز بالخسارة والحرمان ، ونقص ما معه من الإيمان ، وفاته الصبر والرضا والشكران ، وحصل [له] السخط الدال على شدة النقصان .
وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب ، فحبس نفسه عن التسخط ، قولًا وفعلًا واحتسب أجرها عند الله ، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له ، بل المصيبة تكون نعمة في حقه ، لأنها صارت طريقًا لحصول ما هو خير له وأنفع منها ، فقد امتثل أمر الله ، وفاز بالثواب ، فلهذا قال تعالى : وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ أي : بشرهم بأنهم يُوَفَّوْن أجرهم بغير حساب .
- والعلامة السعدي ، هو الشيخ أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبدالله بن ناصر السعدي الناصري التميمي .
ويعرف اختصارًا ابن سعدي (1889 – 1956) .. وُلد في بلدة عنيزة في القصيم يوم 12 من المحرم عام ألف وثلاثمائة وسبع من الهجرة النبوية ، وتُوفيت أمه وله من العمر أربع سنوات ، وتُوفي أبوه وهو في السابعة ، فتربى يتيمًا ولكنه نشأ نشأة حسنة ، وكان قد استرعى الأنظار منذ حداثة سنه بذكائه ورغبته الشديدة في التعلم ، وهو مصنف وكاتب كتاب [ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ].
وكان الشيخ من المؤمنين الصابرين ، ومن العلماء الربانيين ، نحسبه كذلك ، ولا نزكيه على الله .
- الصبر سيد الموقف :
تم تكرار كلمة ” الذين “ في آيات سورة الفرقان التي تتحدث عن صفات عباد الرحمن ثماني مرات ، يصف فيها الملك جلّ في علاه فئة من عباده شَرَّفَهُم بأن أطلق عليهم ” عباد الرحمَٰن “ ، و ياله من شرف .
قَرَّبَهُم المولى عز وجل منه لدرجة أنه اختار لهم اسم الرحمن لينسبهم إليه سبحانه وبحمده !
تُرى ماذا قدموا لينالوا هذا القرب ؟
وماذا نفعل لنكون مثلهم ؟
– هيا معًا لنعرف ، ونفهم ، وننفذ :
قال الملك جل في عليائه :
” وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا .
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا .
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا .
وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا .
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا .
إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا .
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا .
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا .
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا .
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا “.
( الفرقان : 63 – 76 ).
انظروا كيف كافأهم رب العزة سبحانه وبحمده ، وقال في نهاية الوصف : ” أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا “.
لماذا الصبر تحديدًا ؟
هل معنى هذا أن كل تلك الأوصاف لم تخرج إلا من رحم الصبر ؟!
هل كان الصبر سيد الموقف ؟
وهل هناك علاقة بين الصبر والعزم ؟
نعم .. نعم .. وألف نعم .
كل ما فعلوه ، فعلوه بالعزم ؛ لأن شجرة العزم لا تقوم إلا على ساق الصبر ، ولأن العزم هو صدق النية ، وقوة الإرادة ، واﻹصرار والثبات واليقظة والحزم والجدية .
وكل هذا لا يأتي إلا بالصبر والتأني والتدريب .
انظروا إلى العلاقة بين العزم والصبر :
قال الله تعالى :
” لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ “.
( آل عمران : 186 ).
” يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ و اصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ “.
( لقمان : 17 ).
” وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ “.
( الشورى : 43 ).
” فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ “.
( الأحقاف : 35 ).
– رأي للشافعي :
حُكِيَ عن الشافعي أنه قال :
{ الخوف خوف الله تعالى ، والجوع صيام رمضان ، ونقص من الأموال أداء الزكاة والصدقات ، والأنفس الأمراض ، والثمرات موت الأولاد ؛ لأن ولد الرجل ثمرة قلبه }.
– بيت الحمد :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” إذا ماتَ ولَدُ العبدِ قالَ اللَّهُ لملائِكتِهِ قبضتم ولدَ عبدي فيقولونَ نعم فيقولُ قبضتُم ثمرةَ فؤادِهِ فيقولونَ نعم فيقولُ ماذا قالَ عبدي فيقولونَ حمِدَكَ واسترجعَ فيقولُ اللَّهُ ابنوا لعبدي بيتًا في الجنَّةِ وسمُّوهُ بيتَ الحمْدِ “.
( رواه أحمد والترمذي ).
– أم سليم المؤمنة الصابرة :
عنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ ابْنٌ لأبي طلْحةَ رضي الله عنه يَشْتَكي ، فَخَرَجَ أبُو طَلْحة ، فَقُبِضَ الصَّبِيُّ ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحةَ قَالَ : مَا فَعَلَ ابنِي ؟ قَالَت أُمُّ سُلَيْم وَهِيَ أُمُّ الصَّبيِّ : هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا ، فَلَمَّا فرغَ ، قَالَتْ : وارُوا الصَّبيَّ ، فَلَمَّا أَصْبحَ أَبُو طَلْحَة أَتَى رسولَ اللَّه ﷺ فَأَخْبرهُ ، فَقَالَ : أَعرَّسْتُمُ اللَّيْلَةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : اللَّهمَّ باركْ لَهُما فَولَدتْ غُلامًا .. فقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ : احْمِلْهُ حتَّى تَأَتِيَ بِهِ النبيَّ ﷺ ، وبَعثَ مَعهُ بِتمْرَات ، فَقَالَ : ” أَمعهُ شْيءٌ ” ، قَالَوا : نعمْ ، تَمراتٌ فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ فَمضَغَهَا ، ثُمَّ أَخذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا في فِيِّ الصَّبيِّ ثُمَّ حَنَّكَه وسمَّاهُ عبدَاللَّهِ . (متفقٌ عَلَيهِ)
وفي روايةٍ للْبُخَاريِّ : قَالَ ابْنُ عُيَيْنَة : فَقَالَ رجُلٌ منَ الأَنْصارِ : فَرَأَيْتُ تَسعة أَوْلادٍ كلُّهُمْ قدْ قَرؤُوا الْقُرْآنَ ، يعْنِي مِنْ أَوْلادِ عَبْدِاللَّه الْموْلُود .
وَفي روايةٍ لمسلِم : ماتَ ابْنٌ لأبِي طَلْحَةَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ ، فَقَالَتْ لأهْلِهَا : لاَ تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بابنِهِ حتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ ، فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً فَأَكَلَ وشَرِبَ ، ثُمَّ تَصنَّعتْ لهُ أَحْسنَ مَا كانتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذلكَ ، فَوقَعَ بِهَا ، فَلَمَّا أَنْ رأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعِ وأَصَابَ مِنْها قَالتْ : يَا أَبَا طلْحةَ ، أَرَأيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَعارُوا عارِيتهُمْ أَهْل بيْتٍ فَطَلبوا عاريَتَهُم ، ألَهُمْ أَنْ يمْنَعُوهَا ؟ قَالَ : لا ، فَقَالَتْ : فاحتسِبْ ابْنَكَ .
قَالَ : فغَضِبَ ، ثُمَّ قَالَ : تركتنِي حتَّى إِذَا تَلطَّخْتُ ثُمَّ أَخْبرتِني بِابْني ، فَانْطَلَقَ حتَّى أَتَى رسولَ اللَّه ﷺ فأخْبَرهُ بِمَا كَانَ ، فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ : ” بَاركَ اللَّه لكُما في ليْلتِكُما ”.
– مَهْر أم سليم :
هيا لنعرف كيف تزوج أبو طلحة أم سليم المؤمنة التقية النقية ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال :
خطب أبو طلحةَ ، أمَّ سليمٍ ، فقالت : واللهِ ما مِثلُك يا أبا طلحةَ يُرَدُّ ، ولكنك رجلٌ كافرٌ ، وأنا امرأةٌ مسلمةٌ ، ولا يحلُّ لي أن أتزوجَك ، فإن تُسْلِمْ فذاك مهري ، وما أسألُك غيرَه .
فأسلمَ فكان ذلك مهرَها .
( رواه النسائي ، وصححه الألباني ).
- وقال الدكتور محمد سيد طنطاوي -رحمه الله تعالى- في تفسيره :
ولنصيبنكم بشيء من الخوف وبشيء من الجوع ، وبشيء من النقص في الأنفس والأموال والثمرات ، ليظهر هل تصبرون أو لا تصبرون ، فنرتب الثواب على الصبر والثبات على الطاعة ، ونرتب العقاب على الجزع وعدم التسليم لأمر الله تعالى .
ولقد حدث للمسلمين الأولين خوف شديد بسبب تألب أعدائهم عليهم كما حصل في غزوة الأحزاب .
وحدث لهم جوع أليم بسبب هجرتهم من أوطانهم ، وقلة ذات يدهم حتى لقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يشد الحجر على بطنه .
وحدث لهم نقص في أموالهم بسبب اشتغالهم بإعلاء كلمة الله .
وحدث لهم نقص في أنفسهم بسبب قتالهم لأعدائهم .
ولكن كل هذه الآلام لم تزدهم إلا إيمانًا وتسليمًا لقضاء الله وقدره ، واستمساكًا بتعاليم دينهم .
وهذا البلاء وتلك الآلام لا بد منها ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة ، كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف ، إذ العقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم تركها عند الصدمة الأولى ، وليعلم من جاء بعدهم من المؤمنين إذا ما أصابهم مثل هذه الأمور أن ما أصابهم ليس لنقصان من درجاتهم ، وحط من مراتبهم ، فقد أصيب بمثل ذلك أو أكثر من هم أفضل منهم وهم أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم .
- قال الإمام الرازي :
وأما الحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء ؛ أى الإخبار به قبل وقوعه : ففيها وجوه ؛ أحدها : ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد لهم عن الجزع وأسهل عليهم بعد الورود .
وثانيها : أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن اشتد خوفهم ، فيصير ذلك الخوف تعجيلًا للابتلاء ، فيستحقون به مزيد الثواب .
وثالثها : أن الكفار إذا شاهدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه ، مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمل في دلائله .
ومن المعلوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره ، ثم رأوه مع ذلك مصرًّا على ذلك المذهب :كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة عليه في ذلك المذهب .
ورابعها : أنه- تعالى- أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه .
فكان إخبارًا عن الغيب فكان معجزًا .
وخامسها : أن من المنافقين من أظهر متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم طمعًا في المال وسعة الرزق ، فإذا اختبره -سبحانه- بنزول هذه المحن ، فعند ذلك يتميز المنافق عن الموافق .
وسادسها : أن إخلاص الإنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله -تعالى- أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه .
فكانت الحكمة في هذا الابتلاء ذلك .
ثم بعد أن بيّن -سبحانه- مواطن تضطرب فيها النفوس أردف ذلك يذكر عاقبة الصبر ، وجزائه الأسنى .. وبَشِّر الصابرين .