وبالوالدين إحسانًا :
يقول الله تعالى في كتابه العزيز :
” وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا “. (الإسراء : 23)
قال البيضاوي :
ومعنى عندك : أن يكونا في كنفك وكفالتك .
” فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ” .. فلا تتضجر مما يستقذر منهما ، وتستثقل من مؤنتهما ، وهو صوت يدل على تضجر .
وعن مجاهد ، في قوله : ” فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا “.
قال : إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويخرآن ، فلا تقل لهما أف تقذّرهما .
وفي رواية أخرى له :
” إما يَبْلُغانَّ عِندك الكبر فلا تَقُل لَهُمَا أُفٍّ ” .. حين ترى الأذى ، وتميط عنهما الخلاء والبول ، كما كانا يميطانه عنك صغيرًا ولا تؤذهما .
وقالوا : لا تسمعهما قولًا سيئًا ؛ حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ ، ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح .
قال عطاء بن أبي رباح في قوله : ” وَلا تَنْهَرْهُمَا ” .. أي : لا تنفض يدك على والديك .
ولما نهاه عن القول القبيح ، والفعل القبيح ، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن ، فقال : ” وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ” ؛ أي لينًا طيبًا حسنًا ، بتأدب وتوقير وتعظيم .
- بين شيخ ودكتور :
من الباب نفسه ، نلج مرة أخرى ؛ لنتحدث عن بر الوالدين بشكل مختلف ، وبطريقة غير تقليدية .
سؤال : ما أضعف حرف في اللغة العربية ؟
دكتور في اللغة العربية يقول :
سألني ذات يوم أحد المشايخ : ألست تملك دكتوراه في اللغة العربية ؟
قلت له : بلى يا شيخ .
قال : طيب ، سوف أسألك سؤالًا ..
ما أضعف حرف في اللغة العربية ؟
السؤال بصراحة كان مفاجأة لي !!
ولكن لا ينفع أن لا أجاوب ،
قلت له : ممكن أن يكون أحد حروف الهمس مثل السين مثلًا ( اسسسسس )
أو أحد حروف المد ( الألف والواو والياء ) ؛ لأنها مجرد هواء خارج من الجوف ..
ابتسم ابتسامة المعلّم ، وقال :
غلط يا صاحب الدكتوراه !!
قلت له بشغف المتعلم : إذا لم يكن كذلك فما هو يا شيخ ؟ منكم نتعلم ونستفيد ..
قال : أضعف حرف في اللغة العربية هو حرف ( الفاء ) ؛ ولذلك اختاره الله سبحانه لينهانا به عن عقوق الوالدين ..
فقال تعالى : ” فلا تقل لهما أف “.
وعندما عدت إلى المراجع ..
وجدت أن الحروف الهجائية فيها بالفعل القوي والضعيف ، وأن أقواها على الإطلاق هو الطاء ..
لأنه لا توجد فيه صفة من صفات الضعف ( كالهمس والرخاوة واللين …إلخ ) ..
وأن أضعف الحروف الهجائية فعلًا حرف الفاء ؛ لأنه لا توجد فيه صفة من صفات القوة : ( كالجهر والشدة والإطباق …إلخ ) .
ومن إعجاز القرآن أن يأتي أضعف الحروف الهجائية ( الفاء ) للنهي عن أن نقول للوالدين : ” أف ” ، تعبيرًا عن الضيق والتأفف ، فالمولى عز وجل نهانا عن الأضعف ، فما بالك بالقوي والأقوى ؟!
علموها لأبناء جيلنا ؛ ليحذروا الوقوع في مستنقع العقوق .
- الشكر للوالدين :
قال الله تعالى موصيًا الإنسان بوالديه :
” وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ “. ( لقمان :14)
قال العلامة السعدي في تفسيره :
ولما أمر بالقيام بحقه ، بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد ، أمر بالقيام بحق الوالدين فقال : ” وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ ” أي : عهدنا إليه ، وجعلناه وصية عنده ، سنسأله عن القيام بها ، وهل حفظها أم لا ؟ فوصيناه ” بِوَالِدَيْهِ ” وقلنا له : ” اشْكُرْ لِي ” بالقيام بعبوديتي ، وأداء حقوقي ، وأن لا تستعين بنعمي على معصيتي .. ” وَلِوَالِدَيْكَ ” بالإحسان إليهما بالقول اللين ، والكلام اللطيف ، والفعل الجميل ، والتواضع لهما ، وإكرامهما وإجلالهما ، والقيام بمئونتهما واجتناب الإساءة إليهما من كل وجه ، بالقول والفعل .
فوصيناه بهذه الوصية ، وأخبرناه أن ” إِلَيَّ الْمَصِيرُ ” أي : سترجع أيها الإنسان إلى من وصاك ، وكلفك بهذه الحقوق ، فيسألك : هل قمت بها ، فيثيبك الثواب الجزيل .. أم ضيعتها ، فيعاقبك العقاب الوبيل .
ثم ذكر السبب الموجب لبر الوالدين في الأم ، فقال : ” حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ” أي : مشقة على مشقة ، فلا تزال تلاقي المشاق ، من حين يكون نطفة ، ومن الوحم ، والمرض ، والضعف ، والثقل ، وتغير الحال ، ثم وجع الولادة ، ذلك الوجع الشديد .
ثم ” فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ” وهو ملازم لحضانة أمه وكفالتها ورضاعها ، أفما يحسن بمن تحمل على ولده هذه الشدائد ، مع شدة الحب ، أن يؤكد على ولده ، ويوصي إليه بتمام الإحسان إليه .
- جناح الذل من الرحمة :
قال الله البر الرحيم :
” وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا “. (الإسراء : 24)
يقول السعدي -رحمه الله- في تفسيره :
” وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ” أي : تواضع لهما ذلًا لهما ورحمة واحتسابًا للأجر لا لأجل الخوف منهما أو الرجاء لما لهما ، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد .. ” وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا ” أي : ادع لهما بالرحمة أحياءً وأمواتًا ، جزاء على تربيتهما إياك صغيرًا .
وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق ، وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين فإن له على من رباه حق التربية .
وقال الإمام البغوي في تفسيره :
” وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ ” أي : أَلِنْ جانبك لهما واخضع .
قال عروة بن الزبير : لِنٍ لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه من الرحمة ومن الشفقة ” وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا “.
قال ابن عباس : هذا منسوخ بقوله : ” مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ “. (التوبة : 113)
عن أبي الدرداء- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيّع “.
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” رضا الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد “.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر “.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له ورغم أنف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة “.
- لا تطعهما وصاحبهما بالمعروف :
متى يا ربنا نفعل ذلك ؟!
والجواب من عند الملك سبحانه ؛ ففي سورة لقمان – الآية 15 ، يقول الله العليم الحكيم سبحانه وجل شأنه :
” وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ “.
وإذا بذَلا جُهدَهُما وحرَصَا على أنْ تُشرِكَ بي شَيئًا لا يَصِحُّ أنْ يَكونَ إلهًا ولا يَستَقيم ، لكنَّهُ عَقيدَتُهما ، فلا تَسمَعْ منهما ، فـ ” لا طاعَةَ لمَخلوقٍ في مَعصِيَةِ الله ” كما في الحَديثِ الصَّحيح ، ولكنْ دارِهِما في الدُّنيا ، وصاحِبْهما بالعِشْرَةِ الجَميلَة ، بما يُوافِقُ الشَّرْعَ ويَقتَضيهِ الكرَمُ والمُروءَة ، كإطعَامِهما ، وعِيادَتِهما إذا مَرِضا ، واتَّبِعْ طَريقَ مَنْ أقبلَ على طاعَتي ، ولا تَتَّبعْ طَريقَهُما في الكُفرِ والمَعصِيَة ، ثمِّ إليَّ مَصيرُكمْ جَميعًا ، مَنْ آمَنَ ومَنْ كفَر ، لأجزيَ كُلاًّ بما عَمِل .