هجرة المسلمين للحبشة 2 :
( ٣٩ ) الحلقة التاسعة والثلاثون من سيرة الحبيب ﷺ :
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
مازلنا مع هجرة المسلمين للحبشة .
تكلمنا في الحلقة الماضية عن التوقيت الذي نزلت فيه سورة مريم وكان هذا مهم جدًا لأن أهل الحبشة نصارى ويجب أن يتعرف الصحابة على ديانة النصارى ، فتنزل سورة مريم كي تعلمهم كيف يدعون للإسلام .
وبعد هجرة المسلمين إلى الحبشة ، بعد ما أذاقت قريش المسلمين كل أصناف التعذيب ، لم يهنأ لمشركي قريش بالٌ حتى فكروا في مكيدة جديدة للمسلمين .
إذ لم يكتفوا فقط بمطاردة المسلمين في مكة ، بل سعوا خلفهم يحاربونهم في دار هجرتهم .
إنها خطط الشيطان ، دائمًا ما تكون واحدة في كل جاهلية لمطاردة أصحاب الرسالات .
قامت قريش بإرسال عمرو بن العاص قبل إسلامه للحبشة لأنه كان صديق مقرب للنجاشي فأخذ معه المال والهدايا وأخذ يوزعها على حاشية الملك حتى انتهى إلى الملك ، وكانت هدية الملك تختلف عن بقية الهدايا .
ما السر في ذلك ؟؟
كان السبب وراء هذه الهدايا هو إقناع الملك بتسليم المسلمين وإرجاعهم الى مكة ، ليكونوا تحت سيطرة قريش مرة أخرى .
فذهب عمرو بن العاص وأخذ معه عبدالله بن أبي ربيعة ودخلوا إلى القصر فرحب بهم النجاشى ، فأخذ عمرو بن العاص يقول : أيها الملك ، إنه قد ضوى ( أي لجأ ) إلى بلدكم غلمان سفهاء ، فارقوا دينهم ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين ابتدعوه ، لا نعرفه نحن ولا أنتم .
ثم طلب من الملك أن يُسَلِّم المسلمين لهم .
لكن النجاشي احتاط في الأمر ورأى أن يسمع القضية من الطرفين ، فاستدعى النجاشى الصحابة رضي الله عنهم .
فماذا حدث بعد ذلك ؟
عندما استدعى الملك الصحابة رضي الله عنهم سألهم : ما هذا الدين الذي فارقتم به قومكم ، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من الملل ؟
في هذه اللحظات ارتبك الصحابة رضي الله عنهم ، وبدأوا يفكرون فيمن لديه اللباقة والقدرة على عرض الإسلام بصورة شيقة وجميلة ومقنعة دون أن ينتقص من النصرانية .
فتقدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أمام النجاشي نيابة عن الصحابة رضي الله عنهم مُلَخِّصًا رسالة الإسلام في دقائق وقال :
{ أيها الملك ، كنا قومًا أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونُسيء الجوار ، ويأكل منا القوي الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله وحده ، لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه ، وآمنا به ، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا ألا نُظلَم عندك أيها الملك }.
فأُعجب النجاشي بالكلام فقال لجعفر : هل معك مما جاء به نبيك عن الله من شيء ؟ قال : نعم ، فقال له النجاشي : فاقرأه علىَّ .
وفكر جعفر رضي الله عنه في الآيات التي سيقرؤها على النجاشي ، ثم هداه الله تعالى إلى اختيار موفَّق ، فبرغم كثرة السور التي نزلت في مكة ، إلا أنه رضي الله عنه اختار صدر سورة مريم ( أي أولها ) ، اختار السورة التي تتحدث عن عيسى وزكريا ويحيى -عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم- اختار السورة ذات السياق العذب اللطيف ، تلك التي تجذب قلوب السامعين وتأخذ بألبابهم وأفئدتهم ، فتنشرح صدورهم لما جاء من عند الرحمن الرحيم ، فقرأ جعفر : ” كۤهیعۤصۤ (١) ذِكۡرُ رَحۡمَتِ رَبِّكَ عَبۡدَهُۥ زَكَرِیَّاۤ (٢) إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَاۤءً خَفِیࣰّا (٣) ” …. إلى آخر ما قرأ رضي الله عنه .
ولما قرأ جعفر رضي الله عنه الآيات ، لم يتحمل النصارى أثر تلك الكلمات المعجزة ، فما تمالكوا أن انهمرت دموعهم غزيرة فياضة ، وبكى النجاشي حتى ابتلت لحيته ، وبكى الأساقفة ، ولم تقف هدايا عمرو حائلًا بين كلام الله تعالى وبين قلوب السامعين ، وهنا وبوضوح أخذ النجاشي القرار وقال :
{ إن هذا ( أي القرآن ) والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة } ؛ أي إن القرآن والإنجيل أصلهما واحد .
وإن هذا ليعد إقرارًا منه بصدق الرسالة ، وصِدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصِدق جعفر ومن معه .. ثم التفت إلى عمرو وعبدالله بن أبي ربيعة وقال لهما : { انطلقا ، فلا والله لا أسلمهم إليكما }.
وبهذا يكون الوفد الإسلامي قد نجح أعظم نجاح ، ولم ينجح في إقناع عقل النجاشي وأساقفته فقط ، بل تعدّى ذلك حتى وصل إلى قلوبهم ، وكانت هذه الجولة بكاملها في صفِّ المؤمنين ، وهُزم سفيرا قريش هزيمة منكرة ، وذلك في أول تجربة لقريش مع المؤمنين على أرض محايدة .
فرح جعفر وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين ، وقالوا الحمد لله .
وغضب عمرو بن العاص غضبًا شديدًا ، وقال لعبدالله بن ربيعة : والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم ( أي سأرجع غدًا لأُنهي أمر أصحاب محمد ) ، فقال له عبدالله بن أبي ربيعة : لا تفعل ، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا ، ولكن أصرّ عمرو على رأيه .
فلما كان الغد قال عمرو للنجاشي : أيها الملك ، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيمًا .. فأرسَلَ إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح .
ففزع المسلمون ، ولكن أجمعوا على أن يقولوا الصدق كائنًا ما كان ، فلما دخلوا على النجاشي وسألهم ، قال له جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم : { هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول }.
فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال : { والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود }.
ثم أخذ النجاشى يكمل كلامه ، وقال للمسلمين : { اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي ، ثم قال يا عمرو بن العاص خذ هداياك و أموالك فلا حاجة لي فيها ، هم والله في حمايتى أبدًا ما حييت } .. فرجع عمرو بن العاص و عبدالله بن ربيعة لمكة ، وفشلت مكيدة قريش .
لله درُّ النجاشي ! مَلِكٌ فاز بالدنيا والآخرة !
استنصره المستضعفون في الأرض فنصرهم وآواهم وأيَّدهم ، فحق له شرف أن يكون أول من احتضن عظماء الرجال وأول رعيل من المسلمين .
فكم نشتاق لمثلك يا نجاشي !
وإلى لقاء في جنات الخلود .
وإلى لقاء جديد مع حلقة جديدة بإذن الله .