رحلة الطائف 4

رحلة الطائف 4 :

( ٥٥ ) الحلقة الخامسة والخمسون من سيرة الحبيب ﷺ :

رحلة الطائف وإيذاء الحبيب صلى الله عليه وسلم :

تعالوا نبدأ الكلام بالصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الكرام .

تكلمنا في الحلقة الماضية عن الرسالة التي أرسلها الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مع مَلَك الجبال ، وكيف كان ردُّه صلى الله عليه وسلم على تلك الرسالة ليتبين لنا جانبًا بسيطًا من خُلُقه العظيم صلوات الله وسلامه عليه .

وسنوضح في هذه الحلقة بعض المعاني والدروس الرائعة المستفادة من هذه القصة .

لقد حكت لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقالت :
” هل أتى عليكَ يومٌ كانَ أشدَّ من يومِ أُحُدٍ؟! “.

سؤالٌ مُفاجئ …

فبدأ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعود بذاكرته إلى السنوات الخالية ، والأيام الماضية .

أيُّ يومٍ كان أشدَّ عليه مِنْ يومِ أُحُد …
ذلك اليومُ الذي قُتل فيه سبعون من أصحابه ، ومُثِّلت بجثثهم ، وبُقِرت بُطون كثيرٍ منهم ؟!

ذلك اليومُ الذي شُجَّ فيه وجهه صلى الله عليه وسلم ، وكُسِرَت فيه بعض أسنانه ، ودخلت الحديدةُ الواقية في رأسه .

فإنْ لم يَكُنْ هذا اليومُ أشدَّ يومٍ مرّ عليه ، فرُبَّما يكون يومَ الخندق ، الذي قال الله تعالى فيه ، حاكيًا حال المؤمنين يومها ، وما هم فيه من الشدَّةِ والخوف والأذى: ” إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا “.

فهل هناك يومٌ كان أشدَّ عليه صلى الله عليه وسلم من هذين اليومين ؟!

نعم، إنه [ يوم العَقَبة ].

قَالَ صلى الله عليه وسلمَ مُجيبًا على سُؤالها :
” لقد لَقِيتُ من قومِكِ ما لَقِيتُ ( أي: لقيت منهم العناء والشدَّة والأذى ) وكانَ أشدَّ ما لَقِيتُ مِنهم يومَ العَقَبَةِ”.

وهو اليوم الذي وقف صلى الله عليه وسلم عند العقبة التي في مكة ، وهي المكان المشهور الذي ستتمُّ عنده البيعتان بعد ذلك ، بيعتا العقبة الأولى والثانية اللتان سبقتا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة .

فوقف صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام ، ويقرأ عليهم القرآن ، فما أجابوه ، بل آذوه إيذاءً شديدًا وسبُّوه ، ممَّا دفعه إلى التفكير -وللمرَّة الأولى- في الخروج من مكة والذهاب إلى الطائف ، علَّه أنْ يجد آذانًا مصغية ، وقلوبًا واعية .
فكانت هذه القصَّة .

وذكر بعض المفسِّرين أنَّ العَقَبة قد تكون مكانًا في الطائف ؛ وذلك -كما يقولون- يُناسب أنَّ أحداث القصَّة هناك .

قال صلى الله عليه وسلم :
” إذ عَرَضتُ نَفسِي على ابنِ عبدِ يَاليلَ ، فَلَم يُجِبني إلى ما أردتُ ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي ( أَيْ: سِرتُ دون شعورٍ لأيِّ جهةٍ سأتجه ) ، فَلَم أستَفِقْ إلا وأنا بِقَرنِ الثَّعالِبِ “.
( أي: لم أنتبه حتى وصلتُ إلى قَرنِ الثَّعَالِبِ المعروف بالسيل الكبير ، وهو منطقة تبعد مسافةً كبيرةً من الطائف في اتجاه مكة ، وهي معروفةٌ كذلك بقرن المنازل ، وهي ميقات أهل الطائف عندما يذهبون للحج أو العمرة ).

ولكم أن تتخيلوا هذا الهمَّ الشديد الذي جعله صلى الله عليه وسلم يمشي هذه المسافة الطويلة ، وهو لا يشعر بسيره ، وهي مسافةٌ مع طولها ، إلا أنها وَعِرةٌ وصعبة ، كلُّها جبالٌ شاهقة ، وأوديةٌ سحيقة ، فأيُّ أذًى لحقه من هؤلاء المشركين الكفرة ؟!

فبينما هو في هذا الهمّ والحزن الشديد ، إذا به يرفَعُ رَأْسه نحو السماء ، فرأى سَحَابَةً عظيمةً قَد أَظَلَّتْه .
قال : ” فنَظَرتُ فإذا فيها جبريلُ ، فناداني فقال : ” إنَّ اللهَ قد سَمِعَ قَولَ قَومِكَ لَك ، وما رَدُّوا علَيك ، وقد بَعَثَ إلَيك مَلَكَ الجبالِ ، لِتَأمُرَهُ بِما شِئتَ فيهم “.
فناداني مَلَكُ الجبالِ ، فسلَّم عَلَيَّ ، ثم قال : ” يا مُحَمَّدُ ، قَد بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيكَ لِتَأمُرَنِي بأمرِك ، فما شِئتَ ، إنْ شِئتَ أنْ أُطبِقَ عليهمُ الأخشَبَينِ؟ “.
( والأخشبان هما جبلا مكة أبو قُبَيس والقعيقعان ).

( أي إنْ شئتَ ضممتُ الأخشبين وجعلتهما كالطبق عليهم حتى هلكوا تحته ، ولا يبقى منهم عينٌ تطرُف ).

فالمقصود من كلام مَلَك الجبال هو إطباق الجبلين على أهل مكة ، وليس على أهل الطائف .

وهذا قد يُحَيِّر بعض الناس ؛ لأنَّ الأزمة التي ذُكِرت في الحديث -التي أعقبها نزول مَلَك الجبال- حدثت في الطائف !

ولكن تفسير ذلك أنَّ الذي دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخروج إلى الطائف هو التعدِّي الصارخ لأهل مكة عليه ، وإصرارهم على هذا الإيذاء عشر سنواتٍ كاملة .

وهذا يدعم أنَّ المقصود بيوم العَقَبة هو يومٌ في مكة عند العقبة اشتدَّ فيه الإيذاء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويُؤَيِّده كذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في أوَّل الحديث: ” لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْم الْعَقَبَةِ “.

وقوم عائشة رضي الله عنها هم قريش وليسوا ثقيفًا ، ويذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أشدَّ ما لقي من قوم عائشة رضي الله عنها -أي قريش- ما كان في يوم العقبة ، ثم حكى قصَّة خروجه إلى الطائف بسبب ذلك اليوم .

وبالإضافة إلى كلِّ ما سبق ، فإنه من المستبعد أنَّ الله عز وجل يُرسل مَلَكَ الجبال ليُهلِك الطائف لمجرَّد التكذيب لمدَّة عشرة أيامٍ فقط ، وهي مدَّة بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مدينتهم ، والله أعلم .

فقد رأينا في كلِّ قصص الأنبياء -وكذلك في قصَّة الرسول صلى الله عليه وسلم- مدى حِلم الله عز وجل على عباده ، وكيف أنَّه يُعطيهم الفرصة تلو الفرصة ، فكيف يُهلك الطائف بعد دعوة عشرة أيامٍ فقط ؟

إنَّما المقصود هو مكة التي كذَّبت عشر سنوات كاملة ، وبالغت في الاستهزاء ؛ حتى اضطرت رسولها إلى الخروج منها إلى غيرها .

ولقد رفض النبي صلى الله عليه وسلم عرض مَلَك الجبال ، ووالله لو عُرِض هذا العرضُ على بعض الناس ، ممَّن أوذي بأقلَّ من هذا الأذى بأضعافٍ كثيرة لَبَادر بالموافقة وفرح بذلك .

أما الرؤوفُ الرحيم ، الذي جاء بالرحمة والإحسان ، ونبذِ الحقدِ والانتقام ، فردَّ على هذا العرض بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” بل أرجُو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبُدُ اللهَ وحدَه ، لا يُشرِكُ به شَيئًا “.

فما أعظمَ شَفَقَته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمه ، وما أشدَّ صَبْره وَحِلْمه !

وقد قال الله تَعَالَى فيه : ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللهِ لِنْت لَهُمْ ” ، وقال عنه أيضًا : ” وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”.

ولم يُخيِّبِ الله ظنَّه صلى الله عليه وسلم ، بل حقَّق رجاءه صلى الله عليه وسلم ، فمرَّت الأيام والسنون ودخلت مكة ثمَّ الطائف في الإسلام وذلك في السنة الثامنة من الهجرة بعد أن ضاعت منهم سنوات طويلة في الشرك ، ووُلِدَ لهم أولاد عبدوا الله عز وجل ولم يُشركوا به شيئًا ، وحدثت مأساة الرِّدَّة الضخمة في جزيرة العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وارتدَّت جزيرة العرب بكاملها ، ولم يثبت على الإيمان إلَّا ثلاث مدنٍ فقط في الجزيرة العربية ، وهذه المدن هي مكة والطائف والمدينة ، وتحقَّق أمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يُخرج الله عز وجل من أصلاب هؤلاء مَنْ لا يكتفي بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا ؛ بل يحمل كلمة لا إله إلا الله إلى كلِّ بقعةٍ في الأرض ؛

فمن صُلب الوليد بن المغيرة خرج ” خالد ” ،
ومن صُلب أبي جهل خرج ” عِكرِمَةُ ” ،
ومن صُلب العاص بن وائل خرج ” عمرو ” ،
ومن صُلب عُتبة بن ربيعة خرج ” أبو حذيفة “.

وهذا نصرٌ كبيرٌ للدعوة ؛ وإن كان قد حدث بعد ذلك الموقف بسنوات .

ونتعلم من هذا الموقف العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم أمرًا مهمًّا نوَجِّه به رسالةً إلى الدُّعاة إلى الله ، وهو أنَّ الحزن الذي يُصيبكم نتيجة إعراض الناس عن دعوتكم والسخرية منكم لأجلها ، هو أمرٌ طبيعي جدًّا ؛ بل إنَّ هذا الحزن أمرٌ محمود ؛ إذ إنَّه دليلٌ على يقظة القلب وحياته ، وأنتم تَتَّبعون فيه سيِّد الدعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فالحمد لله الذي وهب لنا قلوبًا تحزن على الدين ، وتتألَّم لمصاب الإسلام .

وهذه اليقظة في قلب الدعاة هي التي تدفعهم إلى استمرار العمل ، ولعلَّنا قد لاحظنا أنَّ الحزن الذي كان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفعه قطُّ إلى الانتقام ممَّن أحزنه ؛ بل على العكس من ذلك تمامًا ، فقد كان حزينًا لأجلهم لا منهم ؛ ولذلك أجاب في بساطة عجيبة : ” بل أرجُو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبُدُ اللهَ وحدَه ، لا يُشرِكُ به شَيئًا “.

وفي الحلقة القادمة إن شاء الله نعرف كيف أسعد الله قلب نبيه صلى الله عليه بعد هذا الموقف العصيب ، بإسلام طائفة من الجنِّ !

ونختم بخير ختام وهو الصلاة والسلام على نبينا الأمين وآله وصحبه الكرام .

ندعوكم لقراءة : رحلة الطائف 1

Exit mobile version