رحلة الطائف 2

رحلة الطائف 2 :

( ٥٣ ) الحلقة الثالثة والخمسون من سيرة الحبيب ﷺ :

هيا بنا نصلى على النبي صلى الله عليه وسلم .

رحلة الطائف وإيذاء الحبيب ﷺ :

لَمَّا كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، كان أَبو طَالِبٍ يحميه ويحوطه ، ويمنعه من أذى المشركين الحاقدين ، والكفارِ والمجرمين ، وكانت عنده خديجةُ بنتُ خُويلدٍ رضي الله عنها ، زوجته ومصدرُ أُنسه ، وسندُه وشريكُ دربه .

لكن كتب الله لهما الموتَ في السنة العاشرة من البعثة ، فافتقد الدعم الحسيَّ والمعنوي ، فَاشْتَدَّ عليه الْبَلَاءُ ، وتطاول عليه مِنْ قَوْمِهِ السُفَهَاءِ ، وَتَجَرّؤُوا عَلَيْهِ وجاهروه بِالْأَذَى ، فَخَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ ، رَجَاءَ أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَنْصُرُوهُ عَلَى قَوْمِهِ ، وَيَمْنَعُوهُ مِنْهُمْ ، فدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ .

ولقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل الاحتياطات الأمنية في رحلة الطائف ، وتسلل إلى خارج مكة على حين غفلة من أهلها ، وانطلق إلى الطائف ، حوالي مائة كيلو متر سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهابًا ، ومعه مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه .

وهكذا الطريق ، طريق الدعوة ليس سهلًا ولا ممهدًا ، ولكن في الوقت نفسه فإن أجر الدعوة يساوي هذا المجهود بل يزيد { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ }.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام ، فلم تجب إليه واحدة منها . 

وفي العقبة ، عَرَضْ النبي صلى الله عليه وسلم نَفْسِه عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، وكان من السادة في قومه ، فَلَمْ يُجِبْه إِلَى مَا أَرَاد .

ولما انتهى إلى الطائف ، توجه إلى رؤسائها فدعاهم للإسلام فلم يستجيبوا له .

وأقام صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام ، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه .. فقالوا : اخرج من بلادنا .. وأغروا به سفهاءهم ، فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، فوقفوا له سِمَاطَيْن ( أي صفين ) وجعلوا يرمونه بالحجارة ، وبكلمات من السفه ، ورجموا عراقيبه ، حتى اختضب نعلاه الشريفان بالدماء .. وكان زيد بن حارثة رضي الله عنه يقيه بنفسه حتى أصابه شِجَاج في رأسه .

ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط ( أي بستان ) لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف .. ولقد كانا كافرين قد ناصبا النبي صلى الله عليه وسلم العداوة من قبل ، ولكنهما رأفا لحال النبي صلى الله عليه وسلم  وقتها ، فأدخلاه الحائط .. فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم وزيد رضي الله عنه ، و بدأ زيد رضي الله عنه يضمد جراح النبي صلى الله عليه وسلم .

وبعد هذا الأذى النفسيِّ والجسمانيِّ ، وبعد خروجه صلى الله عليه وسلم مِنَ الطَّائِفِ حَزينًا ، يُروى أنه دعا بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ :
” اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعفَ قُوَّتِي ، وَقِلَّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ ، وَأَنْتَ رَبِّي ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي ، أَم إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي ، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ ، أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ “.

أفبعد كل هذا العناء والتعب والمشقة يرغب أناس من المسلمين عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ؟؟!

لم يكن وصول الشرع إلينا هينًا ، وإن الكثير من الناس لا يُقدِّر الكم الهائل من التضحيات التي دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين ليصل إلينا هذا الدين .

فيا تُرى كيف سيكون حزن النبي صلى الله عليه وسلم  لو علم كم تهاون المسلمون في حق هذا الدين الذي سالت في سبيله دماء وأُزهقت أرواح ؟

لقد ورد في الحديث الصحيح عن أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قالت : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :
” إِنَّي على الحوضِ ، حتى أنظرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ منكم ، وسيؤخذُ أناسٌ دوني ، فأقولُ : يا ربِّ منِّي وَمِنْ أُمَّتِي فيقالُ : هل شعَرتَ ما عمِلُوا بعدَكَ ؟ واللهِ ما برِحُوا بعدَكَ يرجِعونَ على أعقابِهم “.

عندما ندرس هذه التضحيات الضخمة نفهم حقًّا هذا العقاب الأليم البشع لأولئك الذين فرطوا في منهج نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وأولئك الذين أحدثوا في الإسلام ما ليس فيه .

فاللهم صلِّ عَلَى رسولنا وإمامنا وقدوتنا ، كم جاهد بلسانه ويده ، وكم بذل كلَّ ما يملكه لأجل هذا الدين العظيم ، كم صبر على الأذى والظلم، والسبِّ والضرب ، لأجل أنْ يُبلِّغ رسالة ربه ، ولأجل أنْ يصل إلينا هذا الدين بيُسرٍ وسهولة ، فها نحن نَقْطِفُ ثمراتِ جهده ، ونتفيَّأُ ظلال بذله ، ونتقلّب بالأمن والإيمان جرَّاء صبره صلى الله عليه وسلم .

فصلوات الله وسلامه عليه كلَّما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون .

وفي الحلقة القادمة إن شاء الله نعرف ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حائط ابني ربيعة .

ندعوكم لقراءة : رحلة الطائف 3

Exit mobile version