من عبق التاريخ

هارون الرشيد

هارون الرشيد ، خليفةٌ فريد ، وهو على جِيد الزمان قصيد ، منع كل شَرٍّ بالإسلام أُريد .
كان يصلي مائة ركعة كل يومٍ جديد ، ويتصدق كل يوم بألفٍ أو يزيد .
يحج عامًا ويغزو عامًا ؛ يا له من موفقٍ رشيد .
ورغم ذلك كله ظلموه ، ولكن الله ليس بظلامٍ للعبيد ؛ فالله يدافع عن الذين آمنوا بكل تأكيد .
وسهم المبطلين ليس بسديد .

ولله در شوقي القائل :

وليس بجارٍ ولاواقعٍ … سوى الحق مما قضاه المُريد

هو الخليفة المُفْتَرَى عليه الذي ظلمه البعض ، فعلى عكس ما أُشيع عنه ، فإنه كان مُحِبًّا للسُّنَّة ، موقرًا للعلماء .

حاول أعداء تاريخنا أن يصوروا هارون الرشيد بصورة شارب الخمر الماجن ، صاحب الجواري الحسان والليالي الحمراء ، الظالم المستبد ، مع أنه كان من أعظم خلفاء الدولة العباسية جهادًا وغزوًا واهتمامًا بالعلم والعلماء .

تولى هارون الرشيد الخلافة بعهد معقود له بعد الهادي من أبيهما الخليفة المهدي وذلك في ليلة السبت السادس عشر من ربيع الأول سنة 170هـ / الرابع عشر من سبتمبر 786م ، وكان عمره آنذاك 25 سنة ، وكان يكنى بـ أبي موسى فتكنى بأبي جعفر .

وكان هارون الرشيد معروفًا بتوقير العلماء ، وتعظيم حرمات الدين ، وبُغض الجدال والكلام ، وحُب السُّنَّة ؛ قال القاضي الفاضل في بعض رسائله : ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد ؛ فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله .

ولما بلغه موت عبد الله ابن المبارك حزن عليه وجلس للعزاء ؛ فَعَزَّاه الأكابر .

هو الخليفة الذي قيل عنه : إنه يحج عامًا ويغزو عامًا .

لقد كان شجاعًا قويًّا ورعًا ، ذُكر عنه أنه كان يصلي مائة ركعة في الليلة ، وكان كثير البكاء من المواعظ .

تولى أمر المسلمين ثلاثًا وعشرين سنة ، حج خلالها تسع مرات ، وكان يقود الحملات ويسير على رأس الجيش .

وأما ما يُذكر عنه من اللهو والمجون والشراب ، فهذا -وإن ذُكر في بعض كتب المؤرخين- فهو من الدسائس التي كان يُرَوِّج لها بعض المغرضين من خصومه .

وفي العصر الحديث كتب بعضهم عنه بغير تمحيص ولا تثبت ، فأوردوا عنه الكذب والأباطيل ، واتهمه بعضهم بازدواج الشخصية .

وكتب عنه بعض المستشرقين مثل : فلبي وترجمه من الإنجليزية عبد الفتاح السرنجاوي ، وكتب عنه المستشرق بالمر ، وقد أنصفه المستشرق ل.أ. سيدبو في كتابه ( تاريخ العرب العام ) حيث وصفه بالتدين والتصدق .

ويكفي أن إمامًا كالفضيل بن عياض -كما نقل عنه صاحب كتاب النجوم الزاهرة- قال في الرشيد : الناس يكرهون هذا -يعني الرشيد- وما في الأرض أعز عليّ منه ، لو مات لرأيت أمورًا عظامًا .

  • التقدم اللغوي :

بلغت اللغة الذروة في عهد الرشيد ؛ لنمو الثقافة والحضارة في عهده ، وقد كان هارون ظِلَّها الظليل ، والمُغْدِق على العلماء والشعراء.

ولقد أخذت علوم العربية في عهده نهضة جديدة اقترنت بأسماء الأصمعي ، وأبي عبيدة ، وأبي زيد ، والفراء ، والكسائي ، وهؤلاء جميعًا اتخذوا لغة البدو هي المَثَل الأعلى ، والنموذج الرفيع ، وكانوا دائما يقاومون لغة العامة في لحنهم ، حتى أنكروا على الفراء أنه لحن بمحضر الرشيد ، وأنه اعتذر عن ذلك بأن اللحن عند سكان المدن لازم لهم كالإعراب عند أهل البادية .

ولقد كان محببًا إلى الخليفة أن يُجالِسَ النُّحَاةَ ، ويستمع إلى جدلهم .. وكان يَقْدِرُ سلامة اللغة حَقَّ قَدْرها ، ويدقق فيما لم يَفْهمه ؛ فقد سمع الأصمعي يقول : «ما لاقتني بعدك أرض» ؛ أي لم تمسكني ، فلم يَرْتَحْ حتى استفسر عنها ، وكان مما حبب زبيدةَ إلى الرشيد فصاحتُها وبلاغةُ أسلوبها ، كالذي رُؤيَ لها من خِطابها للمأمون عندما قَتَلَ ابنها الأمين مما عُدَّ خيرَ الكتب وأَبْلَغَها .

وكان الرشيد دقيق الفهم للعربية حتى كان يستطيع أنْ يَفْرِق بين ماذا قلت أنا قاتلُ غُلَامِك على سبيل الإضافة بمعنى قتلت غلامك ، وبين أنا قاتلٌ غُلَامَك بالتنوين على معنى سأقتل غلامك ، وكان يَفْرق بيْن قَوْلِك أنتِ طالقٌ طالقٌ طالق ، وقولِكَ أنتِ طالق وطالق وطالق ، مما يدل على دقة الذوق .

  • مواقف لا تُنسى :

على مدار التاريخ الإنساني بصفة عامة والإسلامي بصفة خاصة ، هناك مواقف حدثت لا يمكن نسيانها وقد كُتبت بحروف من نور لا يراها الزمن ولا تمتد إليها يد الأيام لتغير منها حرفًا أو خطًا .

ومن هذه المواقف :

‏- هارون والقاضي :

قال الأصمعي : كنت عند هارون الرشيد يومًا ..
وحدث أن قومًا أرادوا أن يتخلصوا من قاضٍ منصِف اسمه ( عافية بن يزيد )..
دخلوا مجلس ( هارون الرشيد ) يتظلمون منه ومن أحكامه ، ووصفوه بشدة التسامح في قضائه بين المتخاصمين ..
فأمر الخليفة هارون الرشيد باستدعاء القاضي ..

فلما حضر مجلسه ، سأله عن سيرته في القضاء ، وكيف يحكم بين الناس ..
‏وبينما هو يجيب عن أسئلته إذ عطس هارون الرشيد ؛ فشَمَّتَه كلُّ من كان في المجلس إلا القاضي !
‏فقال له هارون : ما لك لم تُشَمَّتْني كما فعل القوم ؟!
‏قال القاضي : لَمْ أُشَمِّتْك ؛ لأنك لم تحمد الله ، وقد عَطَسَ رجلان عند النبي ﷺ ، فشَمَّتَ ﷺ أحَدَهُما ولم يُشَمِّتِ الآخر ، فقال الرجلُ الذي لم يُشَمَّتْ :
‏يا رسول الله ، شَمَّتَّ هذا ولم تُشَمِّتني ؟
‏قال : «إن هذا حَمِدَ اللهَ ، ولم تَحْمَدِ اللهَ» (رواه البخاري)..
فقال هارون للقاضي :
‏ارجع إلى عملك وقضائك ، ودُمْ على ما كنتَ عليه ؛ فمن لم يُسامِحْ في عطسة لن يُسامِح في غيرها .
‏فانصرف القاضي منصورًا ، وعَنَّفَ هارون من جاؤوا يوقعون به .

ندعوكم لقراءة : بطل لم يُهزَم

– فطنة هارون :

بينما هارون الرشيد يطوف بالبيت الحرام ، إذ استوقفه رجلٌ وقال له : يا أمير المؤمنين ، إني أريد أن أكلمك بكلامٍ فيه غلظة ، فاحتمله مني !
‏فقال له الرشيد الكيِّس الفَطِن :
‏لا ؛ فقد بعثَ الله من هو خيرٌ منك ، إلى من هو شرٌّ مني ، فأمره أن يقول له قولًا ليِّنًا .
يقصد قول الله عز وجل لموسى وهارون -عليهما السلام- عند دعوتهما فرعون : ” ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ “. (طه : 43-44)

– هارون وابن المبارك :

لما بلغه موت عبد الله بن المبارك حزن عليه حزنًا شديدًا ؛ لأنه كان يحب ويقدر العلماء .. وجلس للعزاء ؛ فعزاه الأكابر .

– صلى الله على سيدي :

قال أبو معاوية الضرير : ما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الرشيد إلا قال : صلى الله على سيدي ، ورويت له حديثه : ” وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيى ثم أقتل ” ؛ فبكى حتى انتحب .

– هارون وحديث النبي ﷺ :

وأخرج الإمام المؤرخ ابن عساكر عن الإمام ابن علية قال : أخذ هارون الرشيد زنديقًا ( فاسد العقيدة ) فأمر بضرب عنقه ، فقال له الزنديق : لِمَ تضرب عنقي ؟
قال له : أريح العباد منك .
قال : فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها ما فيها حرف نطق به ؟!
قال هارون الرشيد : فأين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزارى وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفًا حرفًا .

وكان العلماء يبادلونه التقدير ، فقد روي عن الفضيل بن عياض أنه قال : ما من نفس تموت أشد علي موتًا من أمير المؤمنين هارون ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره ، قال فكبر ذلك علينا -ظننا أن الإمام يبالغ في المدح- فلما مات هارون ، وظهرت الفتن وكان من المأمون ما حمل الناس على القول بخلق القرآن ، قلنا الشيخ كان أعلم بما تكلم .

  • صفاته :

وفي سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي :

كان من أنبل الخُلفاء ، وأحشم الملوك ، ذا حجًّ وجهاد ، وغزوٍ وشجاعةٍ ورأي .. وكان أبيض طويلًا ، جميلًا ، وسيمًا ، إلى السَّمن ، ذا فصاحة وعلمٍ وبصرٍ بأعباء الخلافة ، وله نظر جيد في الأدب والفقه ، قد وَخَطَه الشَّيب .

قيل : إنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات ، ويتصدق بألف ، وكان يحب العلماء ، ويعظم حرمات الدين ، ويبغض الجدال والكلام ، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه ، لا سيما إذا وُعِظ .. وكان يحب المديح ، ويجيز الشعراء ، ويقول الشعر .

وقد دخل عليه مرة ابن السماك الواعظ ، فبالغ في إجلاله ، فقال : تواضعك في شرفك أشرف من شرفك ، ثم وعَظَهُ ، فأبكاه .. ووعظه الفُضَيل مرةً حتى شهق في بكائه .

  • من أقواله :

– يا أيتها الغمامة أمطري حيث شئتِ ، فإن خراجكِ لي .

– من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم .. إن الجواب ما ترى ، لا ما تسمع .

– من شاور كثر صوابه .

– كل ذهب وفضة الأرض لا يبلغ ثمن نخلة في البصرة .

– يقول أبو عبد الله محمد بن العباس المصري : سمعت هارون الرشيد يقول : طلبت أربعة فوجدتها في أربعة .. طلبت الكفر فوجدته في الجهمية ، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة ، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة ، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث .

– انقل المعركة إليهم ، ولا تدعهم يحضرونها إليك .

  • ذِكْر وفاة هارون الرشيد :

كما ورد في البداية والنهاية لابن كثير :

” كان قد رأى ، وهو بالرقة رؤيا أفزعته ، وغمه ذلك ، فدخل عليه جبريل بن بختيشوع ، فقال : ما لك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : رأيت كأن كفًا فيها تربة حمراء خرجت من تحت سريري هذا ، وقائلًا يقول هذه تربة أمير المؤمنين ، فهون عليه جبريل أمرها ، وقال : هذه من أضغاث الأحلام ، ومن حديث النفس ، فتناسها يا أمير المؤمنين .. فلما سار يريد خراسان ومر بطوس ، واعتقلته العلة بها ، ذكر رؤياه التي كان رأى ؛ فهاله ذلك ، وانزعج جدًّا فدخل الناس عليه ، فقال لجبريل : ويحك ؟ أما تذكر ما قصصته عليك من الرؤيا ؟ فقال : بلى يا أمير المؤمنين ، فكان ماذا ؟ فدعا مسرورًا الخادم ، وقال : ائتني بشيء من تربة هذه الأرض .. فجاءه بتربة حمراء في يده ، فلما رآها قال : والله هذه الكف التي رأيت ، والتربة التي كانت فيها ..

قال جبريل : فوالله ما أتت عليه ثلاث حتى توفي رحمه الله ..

وقد أمر بحفر قبره قبل موته في الدار التي كان فيها ، وهي دار حميد بن أبي غانم الطائي ، فجعل ينظر إلى قبره ، وهو يقول : ابن آدم تصير إلى هذا ! ثم أمر بقراء فقرءوا في القبر القرآن حتى ختموه ، وهو في محفة على شفير القبر ، ولما حضرته الوفاة احتبى بملاءة وجلس يقاسي سكرات الموت ، فقال له بعض من حضره : يا أمير المؤمنين ، لو اضطجعت كان أهون عليك .. فضحك ضحك صحيح ، ثم قال : أما سمعت قول الشاعر :
وإني من قوم كرام يزيدهم … شماسا وصبرا شدة الحدثان

وكانت وفاته ليلة السبت ، وقيل : ليلة الأحد .. مستهل جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة ، عن خمس ، وقيل : سبع وأربعين سنة .. فكان ملكه ثلاثًا وعشرين سنة “.

رحم الله هارون الرشيد رحمة واسعة .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى