موسم الحج الوثني :
( ٣١ ) الحلقة الحادية والثلاثون من سيرة الحبيب ﷺ :
هيا نبدأ بالصلاة والسلام على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم .
ها قد اقترب موسم الحج الوثني ، وكانت قريش في رعب من انتشار الإسلام عن طريق القبائل القادمة للحج بمكة ، لأنهم لو دخلوا في الإسلام سوف يحالفون النبي صلى الله عليه وسلم ويحاربون معه قريشًا .. فكان السبيل الأول أمام مشركي مكة هو تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام وفود الحجيج على قدر المستطاع ، وشن حرب إعلامية مضادة واسعة النطاق للنيل منه ولتشويه دعوته صلى الله عليه وسلم ، فكان أبو لهب يمشي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدث مع القبائل لدعوتهم للإسلام ويقول لهم : لا تسمعوا منه ، فإنه كذاب .
وكان للوليد بن المغيرة موقفًا يستحق الذكر لأخذ العِبرة .. فقد سمع الوليد النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن فقال : ” والله لقد سمعت منه كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنَّ أعلاه لَمُثمِر ، وإنَّ أسفله لَمُغدِق ، وإنَّه لَيَعلُو ولا يُعلَى عليه ، وما يقول هذا بشر “.
فقالت قريش : صبأ الوليد ! لَتَصبُوَن قريشٌ كلها ! ( يقصدون أنه فقد عقله وأصبح مسلمًا ، وسوف تتبعه قريش لأنه من زعمائها ) ، وكان يُقال للوليد ريحانة قريش .
فقال أبو جهل : أنا والله أكفيكُم شأنه ( أي أنا قادر على رده لدينكم ).
فمضى إليه حزينًا ، فقال له الوليد : ما لي أراك حزينًا ؟ فقال له : وما لي لا أحزن ، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد ، وتدخل على محمد وأبي بكر لتنال من فضل طعامهما ( أي بقايا طعامهما ) .. فغضب الوليد وتَكَبَّر ، وقال : أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه ؟! فأنتم تعرفون قدر مالي ، واللات والعزى ما بي حاجة إلى ذلك ، وإنما أنتم تزعمون أن محمدًا مجنون ، فهل رأيتموه قط يخنق ؟ قالوا : لا والله .. قال : وتزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه نطق بشعر قط ؟ قالوا : لا والله .. قال : فتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه كذبًا قط ؟ قالوا : لا والله .. قال : فتزعمون أنه كاهن ، فهل رأيتموه تَكَهَّن قط ؟ قالوا : لا والله .. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُسَمَّى الصادق الأمين لكثرة صدقه .
فقالت قريش للوليد : فما هو ؟ ففكر في نفسه ، ثم نظر ، ثم عبس ، فقال لهم : قولوا ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟
فنزل فيه قول الله تعالى في سورة المدثر :
” إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدۡبَرَ وَٱسۡتَكۡبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ یُؤۡثَرُ (٢٤) “.
” إِنَّهُۥ فَكَّرَ ” ( أي في أمر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ) ” وَقَدَّرَ ” في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما .. ” فَقُتِلَ” أي لُعِن ، وكان بعض أهل التأويل يقول : معناها فقُهِر وغُلِب .
فانظروا ماذا قال المشرك عن القرآن ( دستورنا ) ، لقد أعجبه القرآن ولكنه استكبر وطغى .. فلنحذر من الاستكبار عن اتباع الحق فنضِل عن سبيل الله ، ولنحذر من اتباع أهل الباطل لأن عاقبة ذلك هي الهلاك ، كما ضلّ وهلك الوليد بن المغيرة .
وما أن وصل الحجيج إلى مكة حتى أشاع المشركون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم مجنون وساحر ، وأخذوا ينصحون الحجيج بالحذر من محمد غلام قريش حتى لا يسحرهم ، فكان البعض يضع القطن في أذنيه حتى لا يسمع كلام رسول الله ﷺ، ولكن سبحان الله …
” ضِمَاد الأَزدِيّ ” كان له شأن آخر يحكيه لنا ابن عباس رضي الله عنهما فيقول :
《 أنَّ ضِمَادًا قَدِم مكة ، وكان من أَزْدِ شَنُوءَةَ ، ( وهي قبيلة كبيرة من اليمن ) ، وكان يَرقِي ( يعالج الداء بشيء يقرأ ثم ينفُث ) من هذه الرِّيح ( كانوا يرون أن الخَبَل والجنون الذي يصيب الإنسان ، والأدواء التي كانوا يرونها من مَسَّة الجن نفحة من نفحات الجن فَيُسَمُّونَها الرِّيح ، وقيل الريح هنا بمعنى الجن سُمُّوا بها لأنهم لا يُرَون كالريح ) ، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون : إنَّ مُحَمَّدًا مجنون ، فقال : لو أَنِّي رأيتُ هذا الرَّجُل ، لعلَّ الله يشفيه على يَدَيَّ .. قال : فَلَقِيَهُ ، فقال : يا محمد ، إني أرقي من هذه الرِّيح ، وإنَّ اللهَ يشفي على يَدَيَّ من شاء ، فهل لك ؟ ( أي : هل لك رغبة في أن أرقيك وأُخَلِّصُك من الجنون ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إنَّ الحمدَ للهِ نَحمَدُهُ ونَستَعِينُه ، مَن يَهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ، ومَن يُضلِل فلا هَادِيَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه ، أما بعد ” .. فقال : أَعِد عَليَّ كلماتك هؤلاء ، فأعَادَهُنَّ عليه رسول الله ﷺ ثلاث مرات ، فقال : ” لقد سَمِعتُ قَولَ الكَهَنَة ، وقَولَ السَّحَرَة ، وقَولَ الشُّعَرَاءِ ، فما سَمِعتُ مثلَ كَلِمَاتِكَ هؤلاء ، ولقد بَلَغنَ نَاعُوسَ البحر ( والمقصود أن كلماتك هؤلاء بَلَغنَ غاية الفصاحة ونهاية البلاغة ) ، قال : فقال : هاتِ يَدَكَ أُبَايِعكَ على الإسلام ، قال : فَبَايَعَهُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” وعلى قَومِكَ؟ ” ( أي : تُبايِعُ بالإسلام نيابةً عن قومِك أيضًا ) ، قال : وعَلَى قَومِي .
قالَ : فَبَعَثَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ سَرِيَّةً ( والسرية هي مجموعة من الجيش ، ما بين خمسة إلى ثلاثمائة ليس بينهم النبي صلى الله عليه وسلم ) ،فَمَرُّوا بقَوْمِهِ ( أي قوم ضِماد ) ، فَقالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ : هلْ أَصَبْتُمْ ( أخذتم ) مِن هَؤُلَاءِ شيئًا ؟ فَقالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ : أَصَبْتُ منهمْ مِطهَرَةً ( أي إناء يُتَطهر به ) ، فَقالَ : رُدُّوهَا ، فإنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ ).
انظروا إلى فضل سيدنا ضِماد رضي الله عنه على قومه ، فلم يأخذ جيش المسلمين شيئًا من الغنائم التي قد كانت حقًا لهم من قوم ضِماد ، إكرامًا لسيدنا ضِماد رضي الله عنه .
فهذه هي القلوب الطاهرة قلوب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، التي تُذعِن للهدى والحق عندما تراه ، فبمجرد أن سمع سيدنا ضِماد رضي الله عنه كلام النبي ﷺ آمن ودخل نور الحق إلى قلبه ، فكان من السابقين إلى الإسلام ، فهنيئًا له رضي الله عنه .
ونكمل في الحلقة القادمة إن شاء الله .