مع الأصمعي
الأصمعي إمام ذكي ألمعي ، في الأدب هو في مكانٍ عليّ ، هو اللغوي البصري الأخباري .
قال عنه الإمام الذهبي :
” الإمام العلامة الحافظ ، حجة الأدب ، لسان العرب أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مظهر بن عبد شمس بن أعيا ، بن سعد بن عبد بن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، الأصمعي البصري ، اللغوي الأخباري ، أحد الأعلام “.
يقال : اسم أبيه عاصم ، ولقبه قريب .
وقال عنه ابن معين : من أعلم الناس بفنه .
وقال المبرد : كان بحرًا في اللغة .
وقال أبو نواس : هو بلبل يطريهم بنغماته .
– الأصمعي والأعرابي :
من القصص العجيبة في التوكل على الله ، قصة هذا الأعرابي مع الأصمعي ، التي ذكرها الإمام موفق الدين ابن قدامة رحمه الله في كتاب [ التوابين ] :
قال الأصمعي :
أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع بالبصرة ، فبينما أنا في بعض سككها ، إذ طلع أعرابي جلف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس ، فدنا وسلم وقال لي : ممن الرجل ؟
قلت : من بني الأصمع .
قال : ومن أين أقبلت ؟
قلت : من موضع يُتلى فيه كلام الرحمن .
قال : وللرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟
قلت : نعم .
قال : اتل عليّ شيئًا منه .
فقلت له : انزل عن قعودك .
فنزل ، وابتدأت بسورة الذاريات .
فلما انتهيت إلى قوله تعالى : ” وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ “.
قال : يا أصمعي هذا كلام الرحمن ؟
قلت : أي والذي بعث محمدًا بالحق إنه لكلامه أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
فقال لي : حسبك .
ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها ، وقال : أعني على تفريقها .
ففرقناها على من أقبل وأدبر ، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرجل .
وولى مدبرًا نحو البادية وهو يقول : ” وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ “.
فأقبلت على نفسي باللوم ، وقلت : لم تنتبه لما انتبه له الأعرابي .
فلما حججت مع الرشيد دخلت مكة ، فبينما أنا أطوف بالكعبة ، إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق ، فالتفتُ فإذا أنا بالأعرابي نحيلًا مصفارًا فسلّم عليّ وأخذ بيدي ، وأجلسني من وراء المقام ، وقال لي : اتل كلام الرحمن ، فأخذت في سورة ( الذاريات ) فلما انتهيت إلى قوله : ” وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ “.
صاح الأعرابي : وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا .
ثم قال : وهل غير هذا ؟
قلت : نعم ، يقول الله عز وجل : ” فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ “.
فصاح الأعرابي وقال : يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف ؟
ألم يصدقوه حتى ألجأوه إلى اليمين ؟
قالها ثلاثًا ، وخرجت فيها روحه .
– في مجلس الخليفة :
أخطأ الأصمَعيّ في سورة المائدة !
كيف ذاك ، وهو سيّد اللّغَةِ في زَمانِه ؟!
إليكم ما حدث :
كان الأصمعي يجلس في مجلس هارون الرّشيد مع باقي العلماء ، فكان إذا اختَلَفَ العُلَماء التَفَتَ إليه هارون أمير المؤمنين قائلًا : قُل يا أصمَعِيّ ؛ فيكون قوله هو القول الفصل .
ولذلك وصلَ الأصمَعيّ من مرتبة اللغة الشيء العظيم .
وفي يوم وبينما هو يدرّس كان يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار ، ومن ضمن استشهاده قال :
” وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوٓا۟ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءًۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلًا مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ غفورٌ رحِيم ” ، وكان من بين الحضور أعرابيّ فقال :
يا أصمَعِيّ .. كَلام مَن هذا ؟!
فقال الأصمعيّ : كلام الله !
قالَ الأعرابيّ : حاشا لله أن يكون هذا كَلامُه !
فتَعَجّبَ الأصمَعِيّ وتَعَجّبَ النّاس .
قال الأصمَعِيّ : يا رَجُل انظُر ماذا تقول ؟!
هذا كلامُ الله .
قال الأعرابيّ : حاشا لله أن يقول هذا الكَلام !
قال له : يا رجل ، أَتَحفَظُ كلامَ الله ؟!
قالَ : لا .
قالَ : أقول لكَ إنّ هذا الكلام كلام الله .
فقال الأعرابيّ : يَستَحيل أن يكون هذا الكلام كلام الله !!!
كادَ النّاسُ أن يضرِبوُه !
كَيفَ يَكفُرُ بآيات الله ؟!
فقالَ الأصمَعِيّ : اصبِروا .. وهاتوا المُصحَفَ وأقيموا عَلَيهِ الحُجّة .
فجاؤوا بالمُصحَف .. فقال : ٱقرَأوا .. فقرأوا ؛ ” وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوٓا۟ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءًۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلًا مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ “. (المائدة : 38)
فكان آخرُ الآيَة ( عزيزٌ حكيم ) ولَم يَكُن ( غَفورٌ رَحِيم ) .. فتَعَجّبَ الأصمَعِيّ وتَعَجّبَ الناس وقالوا :
يا رَجُل .. كيفَ عَرَفتَ وأنتَ لا تَحفَظُ الآية ؟!
فقالَ الأعرابيّ : { عَزّ فَحَكَمَ فَقَطَع ، ولو غَفَرَ ورَحِمَ ما قَطَع ، فهذا مَوقِفُ عِزّةٍ وحِكمَةٍ وليسَ بِمَوقِفِ مَغفِرَةٍ ورَحمة ، فَكَيفَ تقولُ غَفُورٌ رَحيم ؟! }.
( عيون الأدب العَرَبي ).
ندعوكم لقراءة : صوت صفير البلبل للأصمعي
– شخصية متميزة :
تعالوا لنقترب من هذه الشخصية المتميزة في الأدب العربي :
هو أبو سعيد عبد الملك بن قُريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع وإليه نسبتُه من قبيلة باهلة القيسية .
راوية ثقة صدوق ، وإمام في اللغة والغريب والأخبار والمُلَح .
نشأ الأصمعيّ في البصرة موئلِ العربية ومحفلِ علمائها في عصره ، فتعلم فيها القراءة والكتابة ، ثم أتقن تجويد القرآن على أبي عمرو بن العلاء ( ت 154هـ ) أحدِ القُرّاء السبعة ، وهو أستاذه في سائر علوم اللغة والأدب ، وأكثر من لازمه من شيوخه .
وممن ثَقِفَ عنهم علومه عيسى بن عمر الثقفي ( ت 149هـ ) ، والخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت 175هـ ) ، وسمع مِسْعر بن كِدام ( ت 152هـ ) ، وشعبة بن الحجاج ( ت 160هـ ) ، وحمّاد بن سلمة ( ت 167هـ ) ، وحماد بن زيد ( ت 179هـ ).
ومما أسهم في ثقافة الأصمعي روايته عن فحول الشعراء كرؤبة وابن ميادة والحسين بن مطير الأسدي وابن هرمة وابن الدمينة وغيرهم ، وذلك لاعتقاده أن العلم لا يصح إلا بالرواية والأخذ عن أفواه الرجال .
أحبَّ الأصمعي اللغة حبًّا ملك عليه شغاف قلبه ، فارتحل إلى أعماق البوادي يشافه أرباب الفصاحة والبيان من الأعراب الأقحاح حتى إنه قلّما يقع المرء على كتاب في التراث يخلو من خبر للأصمعي مع الأعراب .
ومما أغنى علمه خزانة كتبه الواسعة التي جمع فيها أصول علمه ومروياته .
يتبين من هذا أن علم الأصمعي لم يكن علم سماع من الأعراب ورواية فحسب ، بل إنه كان مع ذلك علم درس ودراية ، وقد قيل للأصمعي : كيف حفظت ونسي أصحابك ؟
قال : درست وتركوا .
– شهرته وتميزه :
بلغت شهرة الأصمعي الآفاق ، وأورقت شجرته أيما إيراق ؛ فقد كان الخلفاء يجالسونه ويحبون منادمته .
وقد هيأت مجالس هارون الرشيد -على وجه الخصوص- له أن يذيع صوته في كل الأوساط والمحافل الأدبية ؛ فسعى يجمع الأخبار والأشعار ، ويدقق في اختياره لها وفي إنشاده ، بحيث دفعت هذه الشهرة الرواة أن يضعوا أخبارًا وأقوالًا تُنسَب إليه .
ومما يبرهن على شهرته الواسعة ، وتفوقه على أقرانه ما نراه من غالب المصنفين الذين جاءوا من بعده يستقون ثروته اللغوية والأدبية .
كما أن كتب اللغة والأدب قد جمعت الكثير من الأخبار والأشعار التي يرويها ، وكان يعلل شهرته بقوله : ” وصلت بالعلم ، وكسبت بالملح “.
– مكتبة عامرة :
وصل بالعلم -كما قال- ، ولم يبالغ فيما قال ، فقد كانت مكتبته عامرة بالكتب والمؤلفات ، وقد اختلفت المصادر في ذكر عدد كتبها ، فالأصفهاني ينقل على لسان الأصمعي قائلًا : لما خرجنا إلى الرقة ، قال لي : هل حملت معك شيئًا من كتبك ؟ قلت : نعم ! حملت ما خف حمله ، فقال : كم ؟ فقلت : ثمانية عشر صندوقًا ، فقال : هذا لما خففت ، فلو ثقلت كم كنت تحمل ؟
فقلت أضعافها ، فجعل يعجب !
( ونحن كذلك نعجب أشد العجب ).
– من مؤلفاته :
الإبل – الأبواب – أبيات المعاني – الأجناس – الأخبية والبيوت – الاختيار – الأراجيز – أسماء الخمر – الاشتقاق – الأصمعيات – الأصوات – أصول الكلام – الأضداد – الألفاظ – الأمثال – الأنواء – الأوقاف – تأريخ الملوك – جزيرة العرب – الخراج – خلق الفرس – الخيل – الدارات – الدلو – الرحل – السرج واللجام والشوى والنعال والترس – السلاح – الشاء – الصفات – غريب الحديث – غريب القرآن فتوح عبد الملك بن قريب الأصمعي – فحولة الشعراء – القصائد الست – القلب والإبدال – الكلام الوحشي – لحن العامة – اللغات – ما اتفق لفظه واختلف معناه – ما اختلف لفظه واتفق معناه – ما تكلم به العرب فكثر في أفواه الناس – المذكر والمؤنث – المصادر – معاني الشعر – المقصور والممدود – مياة العرب – الميسر والقداح – النبات والشجر – النحلة – النسب – النوادر – نوادر الأعراب – الهمز – الوجوه – الوحوش – صوت صفير البلبل .
– قالوا عنه :
- قال ثعلب : قيل للأصمعي : كيف حفظت ونسوا ؟ قال : درست وتركوا .
- قال عمر بن شبة : سمعت الأصمعي يقول : أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة .
- وقال محمد بن الأعرابي : شهدت الأصمعي وقد أنشد نحوًا من مائتي بيت ، ما فيها بيت عرفناه .
- قال الربيع : سمعت الشافعي يقول : ما عبّر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي .
- وعن ابن معين قال : كان الأصمعي من أعلم الناس في فنه .
- وقال أبو داود : صدوق .
- قال أبو داود السنجي سمعت الأصمعي يقول : إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قوله صلى الله عليه وسلم : ” من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار “.
- وقال نصر الجهضمي : كان الأصمعي يتقي أن يفسر الحديث ، كما يتقي أن يفسر القرآن .
- قال المبرد : كان الأصمعي بحرًا في اللغة ، لا نعرف مثله فيها ، وكان أبو زيد أنحى منه .
- قيل لأبي نواس : قد أشخص الأصمعي وأبو عبيدة على الرشيد ، فقال : أما أبو عبيدة : فإن مكنوه من سفره قرأ عليهم علم أخبار الأولين والآخرين ، وأما الأصمعي : فبلبل يطربهم بنغماته .
رحم الله ذلكم البلبل صاحب : صوت صفير البلبل ، العملاق : الأصمعي .