نبينا محمد ﷺ

مدرسة النبي محمد ﷺ 1

نقضي بعض الوقت في زيارة سريعة ممتعة داخل مدرسة النبي محمد صلی الله عليه وسلم ؛ لنتعلم العلم النافع من المعلم الأول الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه ، المعلم الذي قال هو عن نفسه : ” إن الله لم يبعثني مُعَنِّتًا ، ولكن بعثني معلمًّا ومُيسرًا “. (رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها)

وقال معاوية بن الحكم السلمی : ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه .

وقال الرائع خالد محمد خالد في كتابه الماتع ( رجال حول الرسول ) : ” أي معلم كان ، وأي إنسان ؟ هذا المترع عظمةً ، وأمانةً ، وسموًّا .. أي سر توفر له فجعل منه إنسانًا يُشرِّف بني الإنسان ؟ وبأية يد طُولَى بسطها شطر السماء ، فإذا كل أبواب رحمتها ونعمتها وهداها مفتوحة على الرحاب ؟ أي إيمان ، وأی عزم ، وأي مضاء ؟ أي تقديس للحق ؟ أي احترام للحياة ، وللأحياء “.

نبينا وحبيبنا هو من علم الدنيا الخُلق والأدب ؛ انظروا إلى الكاتبة البريطانية ” كارن أرمسترونج ” وهي تقول عنه : هو شخصية نموذجية ، له دروس مهمة حتى للعالم الغربي . وتمنت أن يوجد في هذا الزمان رجال يعملون مثل أعماله .

یا ملء روحي وهج حبك في دمي … قبسٌ يضيء سريرتي وزمامُ

أنت الحبيب وأنت من أروي لنا … حتى أضاء قلوبَنا الإسلامُ

والله لقد صدق الجاحظ وهو يتكلم عن المعلم فيقول : لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعًا ، ولا أقصد لفظًا ، ولا أعدل وزنًا ، ولا أجمل مذهبًا ، ولا أكرم مطلبًا ، ولا أحسن موقعًا ، ولا أسهل مخرجًا ، ولا أفصح عن معناه ، ولا أَبْيَن في فحواه ، من كلامه بعد كلام الله .

صاحب هذه المدرسة ومعلمها الأول موصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ، فقد أخرج البخاري في صحيحه : عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- فقلت له : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة .. فقال : ” أجل ، والله إنه لموصوفٌ في التوراة ببعض صفته في القرآن ، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا ، وحرزًا للأميين ، أنت عبدی ورسولی ، سميتك المتوكل ، ليس بفظٍ ولا غليظٍ ، ولا صخابٍ في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ؛ ولكن يعفو ويصفح ، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء ، أن يقولوا : لا إله إلا الله ، وأفتح بها أعينًا عميًا ، وآذانًا صمًّا ، وقلوبنا غُلفًا “.

ثم ننتقل إلى بعض الدروس العملية التربوية التي عَلَّمَها المعلم الأول صلى الله عليه وسلم لتلامذته في مدرسته المحمدية التربوية .

محمد صلى الله عليه وسلم ، صاحب الحوض المورود ، واللواء المعقود ، والمقام المحمود .. مباركٌ في كل عصر ، معروفٌ في كل مصر ، مُؤَيدٌ بجبريل ، معصومٌ من التذليل ، مذكورّ في القرآن والتوراة والإنجيل .

فيا أيها المعلم في مدارسنا : دورك أن تعلم لا أن تعاقب من لا يتعلم .

قال عنه معاوية بن الحكم السلمی رضي الله عنه : ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه .. قالها معاوية عن موقف حدث
له وهو في الصلاة ..
قال رضي الله عنه وأرضاه : ” بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله ، فرمانی القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إليّ ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتوننی ، لم أفهم لكني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأبی وأمي ، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه ، فوالله ما قهرني ولا ضربني ولا شتمني ، وإنما قال : ” إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ” ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
قلت : يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية قد جاء الله بالإسلام ، وإن منا رجالًا يأتون الكهان ؟ قال : فلا تأتهم .
قال : ومنا رجال يتطيرون ؟ قال : ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم “. (رواه مسلم : 537)

  • النبي وعليّ :

وانظروا إلى المعلم كيف يرضي ابن عمه عليًّا رضي الله عنه في موقف تخلفه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم على أهله في غزوة تبوك .
فقال المنافقون : والله ما ترکه النبي إلا استثقالًا وتخففًا منه ، فأخذ عليٌّ سلاحه وخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان ؟
فقال : ” أما ترضى أن تكون منی بمنزلة هارون من موسی ، غير أنه لا نبی بعدی “. (رواه البخاری : 4416 – ومسلم : 2404)

  • خير الناس صلى الله عليه وسلم :

لو تحدثنا عن اليقين والتوكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلن تسعفنا الكلمات ولن تدفعنا العبارات ، ولابد أن نأمر سري المعاني ليواتینا فيها كما قال حافظ رحمه الله .

عن جابر رضي الله عنه أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم قَِبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه أصحابه ، فأدركتهم القائلة في واد كثير العِضَاه ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلَّق بها سيفه ، قال جابر : فنمنا نومة ، ثم إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه ، فإذا عنده أعرابي جالس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إن هذا اخترط سیفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده صلتًا ، فقال لي : من يمنعك مني ؟ قلت : ” الله ” ، فها هو ذا جالس ، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم . (متفق عليه)

وفي رواية قال جابر : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بذات الرقاع ، فأتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم مُعلق بالشجرة ، فاخترطه فقال : تخافني ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا ” ، فقال : فمن يمنعك مني ؟
قال : ” الله “.

وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في صحيحه فقال : من يمنعك مني ؟ قال : ” الله ” ؛ فسقط السيف من يده ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فقال : ” من يمنعك مني ؟ “
فقال الرجل : كن خير آخذ .
فقال : ” تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ “
قال : لا ، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك .
فَخَلَّى سبيله ، فأتی أصحابه فقال : جئتكم من عند خير الناس . (متفق عليه)

فنبیكم -يا سادة- هو خير الناس بلا جدال مصداقًا لقول ربنا جل في علاه : ” وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ “. (القلم : 4)

وقوله : ” لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ “. (التوبة : 128)

كما أقسم رب العزة بحياته في سورة الحجر ، وهو ما انفرد به صلى الله عليه وسلم من قِبَل الملك ، قال عز وجل : ” لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ “. ( الحجر : 72)

هذا بخلاف التزكيات المباركات الواردة في الآيات ، فقد زكَّی الملك عقله ، ولسانه ، وجليسه ، وفؤاده ، وبصره ، وصدره ، وزكاه كله -كما تقدم- بقوله جل شأنه : ” وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ “. (القلم : 4)

أيروم مخلوقٌ ثناءك بعدما … أثنى على أخلاقك الخلاقُ

ندعوكم لقراءة : مدرسة النبي محمد ﷺ 2

  • أمر عجيب :

أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه علي بن أبي طالب أن ينام مكانه في ليلة الهجرة ، وأخبره بأنه لن يحدث له مكروه ولن يصيبه أذى ، ثم أمره بأن يرد كل الودائع والأمانات التي عنده لأصحابها ؛ فقد كانت قريش تحارب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحارب دعوته ، وتريد أن تقتله ومع ذلك كانوا يحفظون عنده الأمانات !!

هل علمت عن أخلاق تعدل هذه الأخلاق ؟!
أَدَّبَه ربه فأحسن تأديبه ، صلى الله على محمد ، صلى الله عليه وسلم .

  • النبي والضعفاء :

يعلمنا حبيبنا برفق ولين أن الله جل في علاه لا ينظر إلى صورنا وأموالنا ، ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا ؛ فَرُبَّ ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره ، ورُبما لا يزن الرجل السمين العظيم عند الله جناح بعوضة ، ورُب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره .

تعالوا سويًّا نقرأ بعيون قلوبنا ما رواه سهل بن سعد الساعدي رضی الله عنه ، قال : ” مَرّ رجلٌ على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لرجل عنده جالس : ما رأيك في هذا ؟ فقال : رجل من أشراف الناس ، هذا والله حَرِي إن خطب أن يُنكح ، وإن شفع أن يُشَفَّع .. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مر رجل آخر ، فقال له رسول الله صلی الله عليه وسلم : ما رأيك في هذا ؟ فقال : يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين ، هذا حري إن خطب أن لا يُنكح ، وإن شفع أن لا يُشفّع ، وإن قال أن لا يُسمع لقوله .. فقال رسول الله صلی الله عليه وسلم : هذا خير من ملء الأرض مثل هذا “. (متفق عليه)

المهم أن يكون المسلم قويًّا عند الله ، وجيهًا عنده ، ذا شرف يكرمه الله به ؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد يجعل الإنسان ضعيفًا من وجه ، لكنه قوي عند الله ، يحبه الله ويكرمه ، وينزله المنازل العالية ، وهذا هو المهم .

  • خفض الجناح للضعفاء :

يعلمنا المربي العظيم صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف كيف يأخذ المسئول حق الفقير ، أو المسكين ، أو الضعيف، أو اليتيم ، فها هو عائذ بن عمرو المزني -وهو من أهل بيعة الرضوان- رضي الله عنه ، يقول : أتی أبو سفيان على سلمان وصهيب و بلال في نفر ، فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ؟
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ، فقال : يا أبا بكر ، لعلك أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك .
فأتاهم فقال : يا إخوتاه ، أغضبتكم ؟
قالوا : لا ، يغفر الله لك يا أُخَيَّ . (رواه مسلم : 4504)

  • الرحمة المهداة :

رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، والسراج المنير ، اسمع بأذني قلبك ما قال صلى الله عليه وسلم : ” إني لأقوم إلى الصلاة ، وأريد أن أطول فيها ، فأسمع بكاء الصبي ، فأتجوز في صلاتي ؛ كراهية أن أشق على أمه “. (البخاری : 707)

قال عنه الباحث الأمریکی ” مايكل هارت ” صاحب كتاب ” الخالدون مئة ، أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم ” :
” إن عظمة النبي محمد ، وهذا الامتزاج بين الدين والدنيا هو الذي جعلني أؤمن بأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو أعظم الناس أثرًا في تاريخ الإنسانية كلها “.

هل رأيتم هذا الذي هو على خلق عظيم كيف يصلح بين الناس بكلمة ، هاكم ما ذكرته أمنا عائشة رضی الله عنها فيما روته عن المعصوم والمعلم صلى الله عليه وسلم ، قالت : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت الخصوم بالباب عالية أصواتهما ، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء ، وهو يقول : والله لا أفعل ، فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ” أين المتألي على الله لا يفعل المعروف ؟ ” ، فقال : أنا يا رسول الله ، فله أى ذلك أحب . (متفق عليه)
معنى ” يستوضعه ” : أي يسأله أن يضع عنه بعض دينه ، و” يسترفقه ” : يسأله الرفق ، و” المتألي ” : الحالف .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع نزاع رجلين وقد علت أصواتهما ، خرج إليهما لينظر ماذا عندهما ، وقال ما قال ، فأصلح الله به بين الرجلين ، وكان ما كان من تقبل صاحب الدين الذي يحب المدين ويفضل .. إنه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم .

  • الرفق واللين :

المعلم يأمرنا بالرفق ، فيقول : ” إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطى على الرفق ما لا يعطي على العنف ومالا يعطى على ما سواه “. (رواه مسلم : 2593)

وكما قالوا : الرافق لا يكاد يسبق ، والساكت لا يكاد يندم .

ترى ماذا صنع الرفيق الليّن الهيّن صلى الله عليه وسلم مع الأعرابی الذي بال في المسجد ، هذا ما حكاه لنا أبو هريرة رضي الله عنه ، قال : بال أعرابيٌ في المسجد ، فقام الناس إليه ليقعوا فيه ، فقال النبي صلی الله عليه وسلم : ” دعوه وأريقوا على بوله سجلًا من ماء -أو ذنوبًا من ماء- ، فإنما بُعثتم ميسرين ، ولم تُبعثوا معسرين “. (رواه البخاري : 220) – ( والسجل : هو الدلو الممتلئة ماء ، وكذلك الذنوب )

هل سمعتم المعلم وهو يوصی صحابته ويوصينا نحن أيضًا بقوله : ” إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا يُنزَع من شيء إلا شانه “. (رواه مسلم : 2594)

هل رأيتم كيف ينقل النسيم البذور بهدوء ، بينما العواصف تحطم الأشجار بعنف ؛ فالبناء صامت ، والهدم صارخ .

وفي الأثر : جربت اللين والسيف ، فوجدت اللين أقطع !!

فالرفق يُمن والأناة سعادةٌ … فاستأنِ في رفقٍ تُلاقِ نجاحا

لا خير في حزم بغير رويةٍ … والشك وَهَنٌ إن أردت سراحا

يقول الشيخ محمد الغزالي -رحمة الله- في كتابه الماتع ” جدِّد حياتك ” : ” والمرونة في مقابلة الشدائد بعض آثار الإيمان والرشد ، وحَرِيٌّ بالرجل أن يدع العاصفة تمر ، أن يحسن التغلب عليها بعد أن تكون حدتها قد انكسرت ” .. ويستطرد الشيخ قائلًا : ” والمؤمن المرن يدور مع الأحداث لا دوران ضعف ونفاق ، ولكن كما يدور المصارع في الحلبة حتى لا يكشف مَقَاتِلَه لخصمٍ متربص “.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى