كما يقول الكتاب

مخير ومسير

مخير ومسير :

يقول رب العزة في القرآن الكريم :

” إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا “. (الإنسان : 3)

بَيَّنَ الله -سبحانه وبحمده- على ألسنة رسله طريق الهداية ، فاستبان للإنسان بذلك طريق الضلال ، فهو بعد ذلك إما أن يهتدي إلى الصراط المستقيم ، فيكون عبدًا مؤمنًا شكورًا لله ، وإما أن يضلّ -عياذًا بالله- عنها فيكون عبدًا كافرًا جحودًا لآيات الله .

  • وفي التفسير الميسر :

إنا خلقنا الإنسان من نطفة مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة ، نختبره بالتكاليف الشرعية فيما بعد ، فجعلناه من أجل ذلك ذا سمع وذا بصر ؛ ليسمع الآيات ، ويرى الدلائل ، إنا بينَّا له وعرَّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر ؛ ليكون إما مؤمنًا شاكرًا ، وإما كفورًا جاحدًا .

  • يقول العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي :

أرسل الله إليه الرسل ، وأنزل عليه الكتب ، وهداه الطريق الموصلة إلى الله ، ورغبّه فيها ، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله .
ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك ، ورهبّه منها ، وأخبره بما له إذا سلكها ، وابتلاه بذلك ، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه ، قائم بما حمله الله من حقوقه ، وإلى كفور لنعمة الله عليه ، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية ، فَرَدَّها ، وكفر بربه ، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك .

قال بعض العلماء : الإنسان مُخَيّر ومن ثَمَّ يُسيّره الله على حسب اختياره ؛ أي يصرف الله قلبه على حسب اختياره ، فأما دليل التخيير فهو قول الله تعالى : ” أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) “. (البلد)

وكذلك قول الله تعالى :
” إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا “. (الإنسان : 3)

ومن ثم يأتي التّسيير على حسب اختياره ؛ تصديقًا لقول الله تعالى : ” فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ “. (الصف : 5)

  • وفي التفسير :

فَلَمَّا زَاغُوا ؛ أي : انصرفوا عن الحق بقصدهم ، أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها ، ولم يوفقهم الله للهدى ، لأنهم لا يليق بهم الخير ، ولا يصلحون إلا للشر ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ؛ أي : الذين لم يزل الفسق وصفًا لهم ، لا لهم قصد في الهدى ، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده ، ليس ظلمًا منه ، ولا حجة لهم عليه ، وإنما ذلك بسبب منهم ، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه ، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب [عقوبة لهم وعدلًا منه بهم] كما قال تعالى : ” وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ”.

  • ويقول الدكتور طنطاوي في [ الوسيط ] :

الزيغ : هو الميل عن طريق الحق ، يقال : زاغ يزيغ زيغًا وزيغانًا ، إذا مال عن الجادة ، وأزاغ فلان فلانًا ، إذا حوّله عن طريق الخير إلى طريق الشر .
أى : فلما أصروا على الميل عن الحق مع علمهم به ، واستمروا على ذلك دون أن تؤثر المواعظ في قلوبهم ؛ أمال الله -تعالى- قلوبهم عن قبول الهدى ؛ لإيثارهم الباطل على الحق ، والضلالة على الهداية .
كما قال تعالى : ” وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيرًا”.

وقوله سبحانه : «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» تذييل قصد به التقرير لما قبله ، من أن الزيغ يؤدى إلى عدم الهداية ، وبيان سنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن من استحب العمى على الهدى ، وأصر على ذلك ؛ كانت عاقبته الخسران .
أى : وقد اقتضت حكمة الله -تعالى- أن لا يهدي القوم الخارجين عن طريق الحق ، إلى ما يسعدهم في حياتهم وبعد مماتهم ، لأنهم هم الذين اختاروا طريق الشقاء ، وأصروا على سلوكها .

ندعوكم لقراءة : وهديناه النجدين

– الشعراوي يدلو بدلوه :

قال الإمام الراحل محمد متولي الشعراوي رحمه الله تعالى :

« لو كان في ظاهر الحياة ، أن الإنسان يرى نفسه مجبرًا على كل أعماله ، لما نشأت فكرة أهو مخير ؟ ولو أنه كان مخيرًا في كل أعماله ، ما نشأت فكرة أهو مسير ؟
إذًا الإنسان يجد أفعالًا كثيرة تحدث فيه ، دون اختيار منه ، فيرى أنه لم يعد له اختيار ، فهو مسير فيها ، وأشياء كثيرة تقع على حسب ما قدر واختار ، فهو يريد أن يلبس بدلة لونها كذا ، ويريد أن يأكل طعامًا مذاقه كذا ، ويريد أن يتعلم في مدرسة كذا ، ويريد أن يعمل كذا ، فتقع الأمور كما يقرر أو يريد ، أو قريبًا من ذلك .
إذًا فهناك أمورٌ يكون للاختيار دخلٌ فيها ، وأمورٌ ليس للاختيار دخلٌ فيها ، ومن هنا نشأت المشكلة ».

  • والشعراوي يجيب :

وللإجابة عن سؤال : هل الإنسان مسير أم مخير ؟
قال الشيخ محمد متولي الشعراوي الشعراوى ( رحمه الله ) :

« لا بد أن نعرف حقيقة هذا المحكوم عليه ، ما هو الإنسان أولًا ؟
الإنسان كائن من الكائنات الموجودة في الأرض ، وليس الجنس الوحيد فيها ، وهناك أجناسٌ أخرى تشاركه في الوجود ، ولكن بالاستقراء وجدنا أن الإنسان أقوى هذه الأجناس ، وكل الأجناس في خدمته ، وأقرب الأجناس إليه من جهة الدنو ، المدركة بالحس ، الحيوانات ، وتحت الحيوانات النباتات ، وتحت النباتات الجماد ».

وتابع قائلًا :

« إذًا فالأجناس الموجودة ؛ جماد ونبات وحيوان وإنسان ، والنبات امتاز عن الجماد بالنمو ، وصار جنسًا برأسه ، والحيوان امتاز عن النبات بشيء من الحس والحركة ، أما الإنسان فامتاز عن الحيوان بالفكر ، بمعنى المقياس الذى يختار بين البدائل ، أى أن الأمر الذى لا بديل فيه ، لا عمل لعقلك فيه ، إذا عمل العقل ؛ أفعله أم لا أفعله ؟
إذًا هناك بديل ، وما دام هناك بديل فعقلك يرجح ويختار ، أما الأمور التى لا بديل لها ، فلا عمل للعقل فيها أبدًا ».

وأضاف الإمام قائلًا :

« إذًا فالإنسان رغم كونه أعلى الأجناس ، ففيه حيوانية ، وفيه نباتية ، وفيه جمادية ، فما فيه من قدر الجمادية والنباتية والحيوانية ، فأنا مُسَيَّرٌ فيه كالجماد والنبات والحيوان ، إذا رفعت نفسي سأسقط كقطعة الحجر ، بأن يتحكم في قانون الجماد ، والجاذبية تشدني أيضًا فأنمو ، ولا دخل لي في ذلك النمو ، وليس لي عملٌ فيه بالمرة ».

وتابع الشعراوي :

« فأنا أحس وأتحرك ، لكن ليس لي عمل بهذا الإحساس أو تلك الحركة ، ولا إدارة دواليب جسمي وأجهزته ، ولا أعرف كيف تدور الدورة الدموية ، ولا أعرف كيف تقوم الرئة بعملها ، ولا الجهاز البولي ، ولا الجهاز التناسلي ، ولا الهضمي ، ولا أي جهازٍ آخر ، لا أعرفُ شيئًا من هذا ، وما في الإنسان من الحيوانية ، فهو مسخر فيه ، كالحيوان تمامًا ، ولا اختيار له في شيء ».

واختتم الداعية الإسلامى الراحل ، الشيخ محمد متولى الشعراوي ، بقوله :

« من رحمة الله بي ، أن جعلنى مسيرًا في ذلك كله ، وإلا تؤجل إدارة أجهزة جسمي إلى أن يصير لى عقل ، وأعرف أدور أجهزة الجسم ، فمن رحمته سبحانه وتعالى أن جعل الإنسانَ مسيرًا ، ولا عمل له في هذه المسألة ».

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى