من عبق التاريخ

محمد ابن الحنفية

محمد ابن الحنفية :

القاسم محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي ، وأمه خولة بنت جعفر الحنفية ، فيُنسب إليها تمييزًا عن أخويه الحسن والحسين ، يُكنى أبا القاسم ؛ حيث أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لولد من علي بن أبي طالب أن يُسمى باسمه ويُكنى بكنيته .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التكني بكنيته ؛ فقد ورد عنه قوله : ” تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي ” ، ولكنه أذن لعلي بهذا .

وُلد رحمه الله في خلافة عمر بن الخطاب سنة إحدى وعشرين للهجرة ، وهو أحد الأبطال الأشداء ، كان ورعًا واسع العلم ثقة ، له عدة أحاديث في الصحيحين .

بعد وفاة السيدة فاطمة الزهراء ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تزوج علي بن أبي طالب رضي الله عنه خولة بنت جعفر بن قيس الحنفية ( من بني حنيفة ) ؛ فولدت له ولدًا أسماه ( محمدًا ) ؛ فهو ( محمد بن علي بن أبي طالب ) رضي الله عن أبيه ورحم الله محمدًا .

أراد الناس -وهذا ديدن معظمهم في كل زمان ومكان- التفريق بينه وبين ذرية فاطمة الزهراء رضي الله عنها ؛ فأسموه ( محمد ابن الحنفية ) واشتُهر بها رحمه الله ، ولم يكن أخواه الحسن والحسين رضي الله عنهما يكبرانه بأكثر من عشرة أعوام .

نشأ محمد ابن الحنفية نشأة أبيه فروسيةً وبطولة ؛ فكان أبوه يقحمه في الشدائد والمعارك ، فقال له بعضهم يومًا : لِمَ يُقحمك أبوك في مواطن لا يُقحم فيها أخويك الحسن والحسين ؟!

فكان جوابه عجبًا من الفصاحة الهاشمية ، قال : { لأن أخَوَيّ هما عينا أبي ، وأنا يده ، فهو يقي عينيه بيديه !! }.

تأمل كيف تجاوز حظ نفسه ، وكيف فضّل أخويه ، وكيف التمس العذر لأبيه ، وكيف لم يسقط في فخ النميمة ، وتأمل عبارته وإيجازها وإعجازها .

  • وقع بينه وبين أخيه الحسن خلاف ، فكتب إليه :

{ أما بعد ، فإن الله تعالى فضّلك عليّ ؛ فأمك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ، وأمي امرأة من بني حنيفة ، وجدك لأمك رسول الله وصفوة خلقه ﷺ ، وجدي لأمي جعفر بن قيس ، فإذا جاءك كتابي هذا فتعال إليّ وصالحني حتى يكون لك الفضل عليَّ في كل شيء }.

فلما بلغ كتابه أخاه الحسن رضي الله عنه .. بادر إلى بيته وصالحه .

سبحان الله ذرية بعضها من بعض ، وعجبٌ في التربية .

فقد كان فَطِنًا إلى درجة أن جعل الفضل كله لأخيه ، ولم يبادر هو إلى مصالحة أخيه حتى لا يكون له الفضل عليه ، فمنحه الفرصة لذلك ، ونبهه بذكاء ، وانتهى الأمر .

 وأدبه هذا ليس مجرد أدب الأخ مع أخيه الأكبر ، بل كان أدبًا مع ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم .

رضي الله عنه وعن إخوته وكل آل البيت الأطهار .

وعن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

اللهم اجمعنا بهم في جناتك جنات النعيم يا رب العالمين .

ندعوكم لقراءة : فاطمة الزهراء رضي الله عنها

  • اعتزاله الفتنة :

حين لحق معاوية ، وابنه يزيد ، ومروان بن الحكم ، إلى جوار ربهم ، وآلت زعامة بني أمية إلى عبد الملك بن مروان ، نادى بنفسه خليفة للمسلمين ، فبايعه أهل الشام ، وكان أهل الحجاز والعراق ، قد بايعوا عبدالله بن الزبير ، وراح كل منهما يدعو من لم يبايعه لبيعته ، وامتنع ابن الحنفية عن مبايعة أي منهما ، وانضم إليه رجال كثيرون رأوا رأيه ، حتى بلغوا سبعة آلاف رجل ممن آثروا اعتزال الفتنة ، وألح عليه ابن الزبير بطلب البيعة ، فلما يئس من ذلك ، أمره هو ومن معه من بني هاشم وغيرهم ، أن يلزموا شعبهم بمكة ، وجعل عليهم الرقباء ، ولما بلغ عبد الملك بن مروان ما يعانيه محمد ابن الحنفية أرسل إليه كتابًا يدعوه فيه للقدوم إلى الشام .

سار محمد ابن الحنفية ومن معه ميممين وجوههم شطر بلاد الشام ، فلما بلغوا أبلة استقروا فيها -وأبلة شمال بلاد العقبة- فأنزلهم أهلها أكرم منزل ، وجاوروهم أحسن جوار ، وأحبوا محمد ابن الحنفية ، وعظموه ، فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان ، شق عليه الأمر ، واستشار خاصته ، فقالوا : إما أن يبايع لك ، وإما أن يرجع من حيث جاء ، فكتب إليه عبد الملك يعرض عليه عرضًا مغريًا قال : « أنت رجل لك بين المسلمين ذكر ومكانة ، وقد رأيت ألا تقيم في أرضي إلا إذا بايعتني ، فإن بايعتني فلك مني مئة سفينة ، قدمت عليَّ أمس من القلزم ، فخذها بما فيها ، وبمن فيها ، ولك معها ألف ألف درهم مع ما تفرضه من فريضة لنفسك ، ولأولادك ، ولذوي قرابتك ، ومواليك ، ومن معك ، فإن لم تبايعني ، فارجع من حيث أتيت ، وإن أبيت ، فتحول عني إلى مكان ، لا سلطان لي عليه ».

  • نهاية الحيرة :

انصرف محمد ابن الحنفية برجاله وأهله عن بلاد الشام ، وطفق كلما نزل بمنزل يزعج عنه ، ويدعى إلى الرحيل عنه .

لم تطل حيرة محمد ابن الحنفية في المكان الذي يستقر فيه هو ومن معه ، فقد شاء الله -عز وجل- أن يقضي الحجاج بن يوسف الثقفي على عبدالله بن الزبير ، وأن يبايع الناس جميعًا لعبد الملك بن مروان ، فما كان منه إلا أن كتب إلى الخليفة يقول : « إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من محمد بن علي ، أما بعد : فإني لما رأيت هذا الأمر أفضى إليك ، وبايعك الناس ، كنت كرجل منهم ، فبايعتك لواليك في الحجاز ، وبعثت لك ببيعتي هذه مكتوبةً ، والسلام عليكم » ، فلما قرأ عبد الملك الكتاب على أصحابه ، قال له أصحابه : والله لو أراد أن يشق عصا الطاعة ، ويحدث في الأمر فتقًا ، لقدر على ذلك ، وهو في منأى عنك ، فاكتب إليه بالعهد ، والميثاق ، والأمان ، وذمة الله ورسوله ؛ ألا يُزعَج ، أو يُهَاج هو أو أحد من أصحابه ، وكتب عبد الملك إلى الحجاج ، يأمره بتعظيمه ، ورعاية حرمته ، حتى توفاه الله عن عمر ناهز خمسة وستين عامًا .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى