محاولة قريش قتل النبي ﷺ :
( ٤٦ ) الحلقة السادسة والأربعين من سيرة الحبيب ﷺ :
فلنبدأ الكلام بالصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الكرام .
تكلمنا في الحلقة الماضية عن عناد المشركين واستكبارهم ، وذكرنا قصة اجتماع ساداتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة ، حين طلبوا منه أمورًا خارقة بهدف السخرية منه وتكذيبه صلى الله عليه وسلم ، ومنها أن يجعل الله له جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيه بها عن السعي في الأسواق ، و أن يوسِّع لهم بلادهم ، ويفجر لهم فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق ، ويبعث لهم من مضى من آبائهم ، أو أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بالله والملائكة ليشاهدوهم عيانًا ، أو أن يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم سُلَّمًا إلى السماء ، ثم يصعد عليه ، ويأتي لهم بأربعة من الملائكة يشهدون .
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بُعِثتُ بهذا إليكم ، ولكن الله تعالى بعثني بشيرًا ونذيرًا ، ثم تركهم وانصرف .
وصار الوضع سيئًا جدًا في مكة لأن قريش قد يأست ، فكل محاولتهم للتفاوض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لترك دعوته قد باءت بالفشل ، كما إن تعذيبهم للصحابة رضي الله عنهم أجمعين لإجبارهم على ترك دينهم لم يحقق هدفه ، بل على العكس ازداد ثبات الصحابة رضي الله عنهم وتمسكهم بدينهم ، كذلك فإن بعض الصحابة قد نجحوا في الهجرة إلى الحبشة كما عرفنا من قبل ، وأسلم عمر وحمزة رضي الله عنهما ، فعزَّ بهما الدين واستقوى بإسلامهما المؤمنين .
ونظرًا للأسباب السابقة ، فقد قرر المشركين قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وخصوصًا أن أبا طالب ، عم النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يعد مسموع الكلمة فيهم ، فصار مشركو قريش يعقدون اجتماعاتهم في الحرم بدون استدعاء أبي طالب ، على الرغم من كونه من كبار زعمائهم .
ولذلك فقد شك أبو طالب أنهم يمكرون لأمر خطير ، فأرسل ابنه ليتجسس عليهم ، وعندما عاد قال له : يا أبا طالب إن القوم يريدون قتل ابن أخيك !!
فأخذ أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ممسك بيده الشريفة ، وذهب إلى الحرم وقال : يا معشر قريش والله لو قُتِلَ محمد لسوف نحاربكم نحن بنو هاشم حتى نتفان ( أي سوف نتقاتل حتي يموت منا ومنكم ونفنى جميعًا ) ، ثم تركهم وذهب ومعه النبي صلى الله عليه وسلم .
ونظرًا لتعرض النبي صلى الله عليه وسلم لعدة محاولات قتل من المشركين ، فقد ظل الشغل الشاغل لأبي طالب هو حماية ابن أخيه الحبيب صلى الله عليه وسلم ، ففكر لذلك في خطة لحمايته صلى الله عليه وسلم ، فجمع أهله من بني عبد المطلب ، وبني هاشم ، وبني عبد مناف ، ودعاهم لمساعدته في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمايته .. فوافقوا جميعًا ، مسلمهم وكافرهم ، إلا أبو لهب ، عم النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه فارقهم ، وانحاز إلى صف مشركي قريش ، ضد ابن أخيه ، رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكي نفهم الخطة العبقرية لأبى طالب لحماية المصطفى صلى الله عليه وسلم يجب أن نتعرف معًا على شكل مكة .
كانت مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أرضًا كبيرةً مستديرة تتوسطها الكعبة ، وكانت بيوت أهالي مكة موجودة حول الحرم في شكل دائرى .
وكان بمكة جبال ومنحنيات حول الحرم ، وكان ما بين كل جبل و جبل أرض ضيقة جدًا أو وادي يسَمَّى “شِعب”.
وكان أهل مكة ينقسمون إلي أغنياء و فقراء ، فأما الأغنياء من بني هاشم قبيلة النبي عليه الصلاة والسلام فكانوا يسكنون في المناطق المرتفعة المطلة على الكعبة المشرفة ليتمكنوا من رؤية الكعبة وما حولها ، وكلما ازداد الغنى ، ازداد القرب من الكعبة ، وأما الفقراء فكانوا يسكنون فى الشِعاب الموجودة بين الجبال .
ولكن ماذا فعل أبو طالب ، وهو سيد بني هاشم المُطاع بينهم ؟
لقد أحسن استغلال ذلك التقسيم الجغرافي للمنطقة لحماية النبي صلى الله عليه وسلم .
وبعد أن تعاهد كل بني هاشم وبني عبد المطلب معه على مساعدته في حماية النبي صلى الله عليه وسلم ، أصدر أبو طالب قرارًا بأن يتركوا بيوتهم ، أغنياؤهم وفقراؤهم ، ليعيشوا جميعًا فى شِعب أبي طالب ، ليكونوا جميعًا حول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يصل إليه أحد ممن يريدون قتله .
ولقد فكر أبو طالب في أن يعيش النبي صلى الله عليه وسلم فى مكان مكدس مزدحم يعرف كل من فيه بعضهم البعض جيدًا ، حتى يسهل كشف أي غريب يحاول التسلل بينهم .
ونفذ الجميع الأمر ، المسلمون منهم والمشركون ، وترك الأغنياء بيوتهم وترفهم وراحتهم من أجل حماية النبي صلى الله عليه وسلم ، فأما المسلمون فقد نزلوا الشِّعب لحماية عقيدتهم ، وأما المشركون فقد فعلوا ذلك تعصبًا لقبيلتهم !
ونحن نستطيع أن نتفهم حقيقة أن يضحي المؤمنون من بني هاشم وبني المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وأولادهم ؛ وذلك لأنهم بصدد قضية غالية جدًّا ( وهي العقيدة ) ، لكن الغريب حقًّا هو كيف يصبر الكافرون من بني هاشم وبني المطلب على هذا ؟! هؤلاء الكفار من قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يرجون جنةً ولا يخافون نارًا ، بل إنهم لا يؤمنون بالبعث أصلًا ، ورغم ذلك فقد وقفوا هذه الوقفة الرجولية مع مؤمني بني عبد مناف لأجل العصبية والقبيلة .
ولقد كان الدافع الرئيسي لهذا العمل البطولي هو الحَمِيَّة ، حَمِيَّة الجاهلية .
ولكنها في النهاية حَمِيَّة ، حَمِيَّة الكرامة حين يُهان رجل من القبيلة ، حَمِيَّة لصلة الدم والقرابة ، حَمِيَّة العهد الذي كانوا قد قطعوه على أنفسهم قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على أن يتعاونوا معًا في حرب غيرهم ، حَمِيَّة يضحي في سبيلها المرء بنفسه وأولاده وهو راضٍ ، حَمِيَّة بالأفعال والمواقف ، وليست بالخُطَب والمقالات والشعارات ، ويا ليت هذه حَمِيَّة تعود ، بعد أن ماتت الذمم ، وصار إخواننا من المسلمين يُشرَّدون ، ويُقتَّلون في شتى بقاع الأرض .
وبعد القرار الذي اتخذه أبو طالب ، علمت قريش بالتحالف الذي تم بين بني هاشم ، وبني عبد مناف ، وأدرك الكافرون أنهم لن يتمكنوا من الوصول للنبي صلى الله عليه وسلم لقتله داخل الشِّعب ، وهو محاط بأهله وعشيرته ، وأيقنوا أنهم لو حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم ، بعد تحالف بني هاشم وبني عبد المطلب فسوف تسيل دماؤهم في شعاب مكة ، وربما أدى ذلك لاستئصالهم وهلاكهم .
فماذا يصنعون ؟
سنعرف ذلك في الحلقة القادمة بإذن الله .
ونختم بخير ختام وهو الصلاة والسلام على نبينا الأمين وآله وصحبه الكرام .