حكايات عصرية

قمة البر

قمة البر :

  1. حمل أباه على ظهره

يحكي رجلٌ كبيرٌ في السن فيقول : كنا في رحلة لحج بيت الله الحرام في أوائل عهد الملك عبد العزيز آل سعود ، وكانت الرحلة بالإبل ، والقليل يركبون سيارات ، وكنت أخدم القافلة ؛ لأنني احتسبت ذلك عند الله ، وكنت شابًا ، وكان أبي ضمن هذه القافلة ؛ فكان الكل يدعو لي ولوالدي .

وصلنا إلى دوحة للراحة ، فذهبت إلى ذلول أبي لأنزله ، وجدت الذلول ولم أجد أبي عليه ، سألت عنه ، فلم يدلني أحد عليه .. أين أبي ؟ فهمت أنه نزل لقضاء حاجته ، وتركته القافلة ؛ جُنَّ جنوني ، فانطلقت مسرعًا ولم أركب ذلولًا ظنًّا مني أن ذلك أسرع ، وقطعت مسافة طويلة حتى وصلت إلى أبي هناك على بُعد خمسة كيلو مترات ، وجدته يصلي ، قبلت يديه وقدميه .. ثم قلت له : واللهِ لأحملنك على ظهري ، ونزلت إليه كأفضل ذلول وحملته على ظهري وانطلقت به مسرعًا ، وإذا بدموع أبي تنهمر من عينيه على لحيته ثم على وجنتي ، سألته : لماذا تبكي يا أبي ؟ قال الرجل الكبير : واللهِ يا ولدي ما كثير على الابن أن يحمل أباه على ظهره ، ولكني أبكي لأنني أتذكر الآن ، من أربعين سنة حملت أبي على ظهري في نفس المكان وفي تضاريس الأرض نفسها ، وبين هذين الجبلين ، وها أنت تحملني في المكان نفسه .. ما أجمل أن تبرني يا بني إخلاصًا لا حياءً مني ولا من الخلق ؛ فالبر عبادة .

يا بُني ، إذا أنا مت فإن لي بنيات ( هن أخواتك ) إذا ضاقت بهن الدنيا يأتون إلى أبيهم ، وإن من أبر الأبناء من تلوذ به أخواته -بعد الله عز وجل- بعد وفاة الوالدين .. افتح قلبك لأخواتك ؛ فقد حَرَّج الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حق الضعيفين : اليتيم ، والمرأة ؛ فقال صلى الله عليه وسلم : ” اللهم إني أحرِّج حق الضعيفين : اليتيم ، والمرأة “. (رواه النسائي بإسناد جيد – وأحمد وابن ماجه)

وقال له أيضًا : يا بُني ، اعلم أن البر لا ينقطع .

وتعليقًا على ذلك نقول : يقول الملك عز وجل : ” وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ “. (العنكبوت : 8)

وقال : ” وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا “. (الإسراء : 24)

قال طاووس -رحمه الله- : ” إنَّ من السنة أن نوقر أربعة : العَالِم ، وذا الشيبة ، والسلطان ، والوالد “. (عن ” الدر المنثور ” للسيوطي)

وقال الإمام أحمد -رحمه الله- : بر الوالدين كفارة الكبائر . (” تنبيه الغافلين ” للسمرقندي)

وقال وهب بن منبِّه : إن البر بالوالدين يزيد في العمر . (الدر المنثور)

بروا آباءكم يبركم أبناؤكم .


2. بر طفل

كتب تلميذ في موضوع التعبير ” أمي ماتت ومات معها كل شيء ” ؛ فاشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي ، والصحف والمجلات والفضائيات ، وأبكت الملايين من الشعب المصري .

هو طفل مصري صادق الإحسان بار بوالديه واسمه أسامة أحمد حماد 11 عامًا بالصف الخامس الابتدائي في إحدى مدارس إدارة الشيخ زويد في شمال سيناء بمصر.

كتب العبارة السابقة للإجابة على سؤال ورد في امتحان اللغة العربية في التعبير حول ” فضل الأم العظيم على أبنائها ” ، وعبر المغردون عن حزنهم مما كشفت عنه إجابة الطالب على السؤال ، حيث لم يجد التلميذ الصغير عبارة أكثر توصيفًا لهذا الحب ؛ فكتب ما كتب ، فكرمته المديرية ومنحته شهادة تقدير لرفع روحه المعنوية !!

كتب في موضوع التعبير جملة واحدة ، ولكنها بمثابة ألف كلمة ، الجملة جعلت مدرس اللغة العربية يعمل على نشرها على ” فيس بوك ” ليتعاطف المصريون مع الطفل الذي رفض الذهاب إلى لقاء المحافظ ليتلقى التكريم منه ، ليس لشيء إلا لأنه كان يعمل في الحقل من أجل توفير احتياجات والده المريض وأخته ، وقال التلميذ البار : ” اليومية أهم من التكريم ” ، واليومية عبارة عن عشرين جنيهًا !

ويقولون عبارات إنشائية فخمة ورنانة عن الطفولة في بلادنا ؛ ارحمونا ، كفى اتجارًا بالطفولة .

ساعد بعض الخيرين هذه الأسرة الكريمة ؛ فهدموا بيتهم الصفيح والمعرش بالبوص والجريد والذي هو بلا كهرباء ولا ماء ، وبنوا مكانه بيتًا بالطوب والأسمنت .

وبعد فترة من موت أمه ، مات أبوه القعيد ؛ فكتب على باب المنزل :

” أبويا مات كمان ” ؛ فقد أسامة أبويه جميعًا ، فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين .

استضافته الفضائيات المختلفة منها : (العاشرة مساء) ، (90 دقيقة) ، واهتمت به الوكالات العالمية .. وزادت مساعدات الناس بعد عرض قصة أسامة وأسرته .

قال أسامة في برنامج ” العاشرة مساء ” عن موت أمه : ” مات الإخلاص ، ومات الحنان ، ومات الوفاء ” .. أسامة قمة في الحب والبر والوفاء ؛ فهل وصلت الرسالة أيها الأبناء ؟!


3. فازلين وأنسولين

امرأة فاضلة تسأل أحد المشايخ تقول : أنا أدهن قدمَي أمي بالفازلين ؛ من أجل أن تلين ، ثم يبقى قليلٌ منه بيدي ، أمسح به وجهي ، ويبقى بيدي بعض الدهان .. فهل غسل اليدين بالصابون يكون من العقوق لأن قَدَمَيّ أمي ثمة الجنة ؟

بكى الشيخ تأثرًا ببر هذه السيدة الفاضلة ، وأجابها أنه يجوز لها ذلك ، ولا عقوق في هذا إطلاقًا ، وشكرها على برها بوالدتها .

هذا عن الفازلين ، فماذا عن الأنسولين ؟

فاضلة أخرى تسأل : إني أضرب الأنسولين لأمي ؛ فأرى الألم في وجهها نتيجة ذلك ، وتبكي أمي .. فهل ضرب الحقنة للأم وهي تتألم يكون من العقوق ؟ الجواب : لا وألف لا .

والله ، لقد بكيت عدة مرات وأنا أقرأ هذه الحكايات وأمثالها .. اللهم ارحم والدينا .

ندعوكم لقراءة : وبالوالدين إحسانًا


4. لَبَّيْكَ أَبَتَاه

ناصر هو الابن الأوسط لرجل مسن في الرياض ، وكان هذا الأب مريضًا ، وكان ناصر هذا يرافقه في المستشفى لأكثر من شهرين ، فقال له الأب : يا ناصر ! يا بني ، رافقتني لأكثر من شهرين ، اخرج الآن ، وَسِّع صدرك ، تجول في الأسواق لترتاح من عناء السهر على راحتي .

وكان ناصر لا يستطيب حياته أن يخرج بعيدًا عن أبيه المريض ، كان يستمتع بالبر، ولكن أباه أقسم عليه أن يخرج ، ويتركه إلى وقت مرافقة أخيه الثاني ، وكان له إخوة كثر ، فنفذ أمر أبيه -كنوع من البر- ، ولكنه شعر أنه لا لذة ولا سعادة إلا أن يكون بجوار أبيه ، فبات على باب غرفته !! 

وفي جوف الليل نادى الأب على ابنه لكي يقلبه على فراشه ، فنادى قائلا : يا ناصر ؛ لأن لسانه اعتاد على ذلك ، فلبى ناصر في الحال : لبيك أبتاه ؛ تعجب الأب قائلًا : لماذا لم تذهب وقد خدمتني ستين يومًا وليلة ؟ قال : واللهِ يا أبتِ لا تهنأ عيناي بمنام وأنت هنا حتى أكون تحت قدميك !!

وكان أخوه فهد معه ، وهو ممن يأخذون البر عادة ، وكانوا يتأففون من خدمة أبيهم ، ورفع الأذى عنه .

أما ناصر .. فلينصره الله ، ويرفع قدره في عليين .


5. حكاية تيدي

وقفت معلمة الصف الخامس ذات يوم وألقت على التلاميذ جملة : إنني أحبكم جميعًا وهي تستثني في نفسها تلميذًا يُدْعَى تيدي !!

فملابسه دائمًا شديدة الاتساخ ، ومستواه الدراسي متدنٍ جدًا ، ومنطوٍ على نفسه .

هذا الحكم الجائر منها بناءً على ما لاحظته خلال العام ، فهو لا يلعب مع الأطفال وملابسه متسخة ودائمًا يحتاج إلى الحمام ، وأنه كئيب لدرجة أنها كانت تجد متعة في تصحيح أوراقه بقلم لتضع عليها علامات (×) بخط عريض وتكتب عبارة راسب في الأعلى !!         

ذات يوم طُلب منها مراجعة السجلات الدراسية السابقة لكل تلميذ وبينما كانت تراجع ملف تيدي فوجئت بشيء ما !! 

لقد كتب عنه معلم الصف الأول : تيدي طفل ذكي موهوب يؤدي عمله بعناية وبطريقة منظمة .

ومعلم الصف الثاني : تيدي تلميذ نجيب ومحبوب لدى زملائه ، ولكنه منزعج بسبب إصابة والدته بمرض السرطان .

أما معلم الصف الثالث كتب : لقد كان لوفاة أمه وقع صعب عليه ، لقد بذل أقصى ما يملك من جهود لكن والده لم يكن مهتمًا به وأن الحياة في منزله سرعان ما ستؤثر عليه إن لم تتخذ بعض الإجراءات .

بينما كتب معلم الصف الرابع : تيدي تلميذ منطوٍ على نفسه لا يبدي الرغبة في الدراسة ، وليس لديه أصدقاء ، وينام أثناء الدرس .

هنا أدركت المعلمة ” تومسون ” المشكلة وشعرت بالخجل من نفسها ، وقد تأزم موقفها عندما أحضر التلاميذ هدايا عيد الميلاد لها ملفوفة بأشرطة جميلة ، ما عدا الطالب تيدي كانت هديته ملفوفة بكيس مأخوذ من أكياس البقالة .

تألمت السيدة تومسون وهي تفتح هدية تيدي ، وضحك التلاميذ على هديته وهي عقد مؤلف من ماسات ناقصة الأحجار ، وقارورة عطر ليس فيها إلا الربع !!

ولكن كفَّ التلاميذ عن الضحك عندما عبرت المعلمة عن إعجابها بجمال العقد والعطر ، وشكرته بحرارة ، وارتدت العقد ووضعت شيئًا من ذلك العطر على ملابسها .

ويومها لم يذهب تيدي بعد الدراسة إلى منزله مباشرة ، بل انتظر ليقابلها ، وقال : إن رائحتك اليوم مثل رائحة والدتي !

عندها انفجرت المعلمة بالبكاء ؛ لأن تيدي أحضر لها زجاجة العطر التي كانت والدته تستعملها ، ووجد في معلمته رائحة أمه الراحلة!!

منذ ذلك اليوم أولت اهتمامًا خاصًا به ، وبدأ عقله يستعيد نشاطه ، وبنهاية السنة أصبح تيدي أكثر التلاميذ تميزًا في الفصل ، ثم وجدت السيدة مذكرة عند بابها للتلميذ تيدي كتب بها أنها أفضل معلمة قابلها في حياته ، فردت عليه : أنت من علمني كيف أكون معلمة جيدة !!

بعد عدة سنوات فوجئت هذه المعلمة بتلقيها دعوة من كلية الطب لحضور حفل تخرج الدفعة في ذلك العام موقعة باسم : ” ابنك تيدي “.

فحضرت وهي ترتدي ذات العقد ، وتفوح منها رائحة ذات العطر .

هل تعلم من هو تيدي الآن ؟

تيدي ستودارد هو أشهر طبيب بالعالم ، ومالك مركز ( ستودارد ) لعلاج السرطان !


6. المرصفي البار

يحكي الدكتور طه حسين في كتابه الماتع ” الأيام ” عن معلمه الكبير ” المرصفي ” يقول : إنه وأحد أصدقائه زارا الشيخ ذات يوم حين صلى العصر ، فلما صعدا إليه لقيا شيخًا قد جلس على فراش متواضع أُلقي في هذا الدهليز ( وهو المدخل بين الباب والدار ) ، وإلى جانبه امرأة محطمة قد انحنت حتى كاد رأسها يبلغ الأرض ، والشيخ يطعمها بيده .

فلما رأى تلميذيه هَشَّ لهما ، وأمرهما أن ينتظراه في غرفته قليلًا ، ثم أقبل عليهما بعد حين وهو يقول ضاحكًا راضي النفس : ” كنت أعشي أمي “. لله درك يا شيخنا ، فليرحمك الله رحمة واسعة .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى