سيرة الحبيب ﷺ

فترة إعداد النبي ﷺ للنبوة

فترة إعداد النبي ﷺ للنبوة :

( ١٩ ) الحلقة التاسعة عشرة من سيرة الحبيب ﷺ :

تعالوا نُصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم .

جاء في صحيح البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قولها :
( أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحيِ الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيا إلَّا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ).

وعائشة رضي الله عنها ، وإن لم تكن معاصرة لأحداث نزول الوحي ، لكنها سمعت هذا من رسول الله ﷺ ، أو من الصحابة رضي الله عنهم .

فقد كانت هناك مقدمات للوحي قبل أن ينزل جبريل عليه السلام على رسول الله ﷺ في غار حراء منها :
الرؤيا الصالحة ، فقد كانت تأتي مثل فَلَق الصبح ، يعني : كان يرى ﷺ الرؤيا فتقع تمامًا كما رآها ﷺ ، فكان هذا نوعًا من الإنباء بالغيب ، وكان هذا أمرًا غريبًا ، فهو وإن لم يكن تصريحًا بالرسالة ، لكنه كان شيئًا لافتًا للنظر ، وتمهيدًا لأمر عظيم .

وقد سبقت هذا بعض الأحداث العجيبة جدًا في مكة ، أحيانًا كان يراها ﷺ وحده ، وأحيانًا أخرى يراها معه غيره ، مثل :
سلام الحجر عليه :
قال الرسول ﷺ كما في صحيح مسلم :
” إنِّي لأَعرِفُ حَجَرًا بمَكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُبْعَثَ ، إنِّي لأَعرِفُهُ الآنَ ” ، وهذا قبل البعثة وقبل نزول الوحي .

والرسول ﷺ لم يكن يعرف تفسير هذا الأمر ؛ لأنه ﷺ تفاجأ بأمر الوحي ، ولم يكن يعرف أنه سيكون رسول الله إلى الناس .

وأغرب من سلام الحجر حادثة شق الصدر ، فقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه :
( أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أتاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَلْعَبُ مع الغِلْمانِ ، فأخَذَهُ فَصَرَعَهُ ، فَشَقَّ عن قَلْبِهِ ، فاسْتَخْرَجَ القَلْبَ ، فاسْتَخْرَجَ منه عَلَقَةً ، فقالَ : هذا حَظُّ الشَّيْطانِ مِنْكَ ، ثُمَّ غَسَلَهُ في طَسْتٍ مِن ذَهَبٍ بماءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ لأَمَهُ ، ثُمَّ أعادَهُ في مَكانِهِ ).

وأخبر أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أنه رأى أثر المِخيَط في صدره ﷺ .

إذًا : هذا نوع من الإعداد والتربية والتهيئة لرسول الله ﷺ ، كأن الله عز وجل يقول لنبيه ﷺ : أنت إنسان مختلف ، تحدث لك أمور غريبة ، وكل هذا من باب التمهيد ، حتى إذا ما أتت الرسالة يكون لديه استعداد لها .

ثم تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : ( ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ ) ، أي : أن الله عز وجل هو الذي دفعه لذلك ، كان يصعد ﷺ كل سنة فترة معينة من الزمن ، لعل ذلك كان في شهر رمضان كان يختلي بنفسه في غار حراء ، يتفكَّر في خالق هذا الكون ، كيف يمكن أن نعبد هذا الإله ؟

والعرب بصفة عامة كانوا يعرفون أن الله عز وجل هو الذي خلق هذا الكون ، وهو الذي خلقهم : ” وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ “. (لقمان : ٢٥)

لكن العرب كانوا يسجدون للأصنام ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله عز وجل ، لكن الفطرة السليمة تأبى هذه الطريقة في العبادة ، كيف يمكن للإنسان أن يسجد لحجر ، أو يعتقد أي نفع أو ضر من وراء هذا الحجر ؟

لذا فإن الرسول ﷺ لم يسجد لصنم في حياته قط ، وكان يعرف أن لهذا الكون إلهًا وخالقًا ورازقًا ، ولكن لا يعلم كيف يعبده : ” وَوَجَدَكَ ضَاۤلّا فَهَدَىٰ ” (الضحى : ٧) ، ” ضَاۤلّا ” بمعنى أنه لم يكن يعرف الطريق المناسبة لعبادة هذا الإله القدير الذي خلق السماوات والأرض والبشر وكل شيء .

إذًا مر الرسول ﷺ بمراحل مختلفة من التهيئة والإعداد قبل الرسالة ، مثل : سلام الحجر عليه ، وشق الصدر ، وأمور أخرى حدثت في طفولته ﷺ ، وحب الخلاء ، ثم الرؤيا الصالحة التي استمرت حوالي ستة أشهر ، وبعد ذلك جاءه جبريل عليه السلام في غار حراء .

وربما كانت الحكمة الإلهية من طول المدة الزمنية لإعداد النبي ﷺ قبل البعثة هي هذه التهيئة الطويلة مدة أربعين سنة من الإعداد والترتيب والتهيئة النفسية لحمل الأمانة الثقيلة ، مع أن الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يُعِدَّه لذلك في لحظة واحدة ، ويُثبِّت قلبه فلا يخاف ولا يتردد ، لكن الحكمة من وراء هذا الإعداد الطويل أن ربنا سبحانه وتعالى يُعلِّمنا التَّأنِّي في التربية ، والتَّدَرُّج في حمل الناس على ما نريد ، وحتى لو كان سيحمل رسولًا رسالة ، فإنه يُحَمِّله إياها بالتدريج ، فالتدرج سُنَّة من سُنن الله عز وجل في التغيير والإصلاح ، فالتربية تحتاج إلى تدرج ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج أيضًا إلى تدرج .

فحياة الرسول ﷺ كلها ثلاث وستون عامًا ، منها أربعون عامًا هي سنوات إعداد له ليكون رسولًا وليتلقَّى الرسالة ، ومنها ثلاث وعشرون عامًا فقط نبوة ، فلابد أن تعرف أنك محتاج إلى وقت ومجهود وتربية وإعداد لمن سيحمل هم الأمة الإسلامية ، ولا تستعجل ، فهذا الرسول ﷺ يُعِدُّه ربه أربعين عامًا ؛ من أجل أن يحمل هم الدعوة ، فإذا كان هذا يحصل مع الرسول ﷺ ، فلابد من التَّأنِّي والتَّدَرُّج في سائر أمور حياتنا ، ولابد أن نعي هذا جيدًا .

وفي الحلقة القادمة إن شاء الله سنعرف سويًا كيف بدأت الرسالة وكُلِّف النبي ﷺ بتبليغها .

ندعوكم لقراءة : بداية نزول الوحي على النبي ﷺ

زر الذهاب إلى الأعلى