صبر المسلمين على الأذى

صبر المسلمين على الأذى :

( ٣٥ ) الحلقة الخامسة والثلاثون من سيرة الحبيب ﷺ :

فلنبدأ بالصلاة والسلام على المصطفى الهادي وآله وصحبه الكِرام .

كُنا تكلمنا في الحلقة السابقة عن تأثُّر المشركين بالقرآن ، وكيف أنهم لم يؤمنوا به بسبب ما كان في نفوسهم من كِبر واستعلاء ، على الرغم من تَيَقُّنهم بصحته وبصدق النبي صلى الله عليه وسلم .

ولم تجد قريش إلا أن تلجأ إلى سلاح أهل الباطل ، بالإيذاء والتعذيب والتنكيل بالمستضعفين من المؤمنين ، وهو سلاح الضعفاء ، وليس كما يظن البعض ؛ إذ إنهم يُخفون وراء سيوفهم ووراء سِياطهم ضعفًا شديدًا في نفوسهم وعقيدتهم وأخلاقهم .. فالإنسان السويّ يكاد ينخلع قلبه حين يرى حيوانًا يتألم ، فكيف بالإنسان ؟!
كيف لإنسان أن يصلب إنسانًا ثم يلهب ظهره بالسياط ؟! كيف لإنسان أن يحبس إنسانًا بلا جَرِيرة ولا ذنب ، أو يُطفئ في جسده أسياخ النار ؟!
كيف بمن يقلع أظافر إنسان وهو ينظر إليه ، عينُه في عينِه ؟!
وإذا كان الإسلام قد حرّم على الإنسان أن يحبس هِرّة ، فكيف بحبس إنسانٍ أيامًا وشهورًا بل وسنوات مع ما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة في المال والأهل والولد نتيجة هذا الحبس الجائر ، بلا جَرِيرة ولا ذنب إلا كما قال الله : ” وَمَا نَقَمُوا۟ مِنۡهُمۡ إِلَّاۤ أَن یُؤۡمِنُوا۟ بِٱللهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَمِیدِ “.
وقد حرّم الإسلام على الإنسان أن يقذف طائرًا بحصاة قد لا تُؤثِّر ؛ وذلك لِما في هذا من تعذيب للطائر ، وحرّم عليه أن يَشُق على الحيوان في ذبحه ؛ حيث قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : ” إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحسَانَ علَى كُلِّ شيءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحسِنُوا القِتْلَةَ ، وإذَا ذَبَحتُمْ فأحسِنُوا الذَّبْحَ “.

قد قست قلوب الكافرين وانطلقوا يفترسون المؤمنين والمؤمنات .. وصدق فيهم قوله تعالى : ” ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَ⁠لِكَ فَهِیَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةً “.
وكانت القاعدة الإيمانية الماثلة دومًا أمام أعيُن الضعفاء والمُعَذَّبين من المؤمنين هي : ” يذهب الألم ويبقى الأجر إن شاء الله “.

فعلى سبيل المثال ، وكما عرفنا في حلقات سابقة ، حين سُئِل بلال رضي الله عنه : لماذا اتَّخذ كلمة ( أحَدٌ أحَدٌ ) شِعارًا له ورمزًا لصموده ، بالذات دون غيرها من الكلمات ، أجاب : لكونها كانت أشد كلمة على الكفار ( فكان يريد أن يغيظهم بها ) .. وفي صبرٍ عجيب ظل بلال رضي الله عنه في هذا التعذيب ، حتى اشتراه أبو بكر رضي الله عنه ثم أعتقه بعد ذلك .. ومرّت الأيام ونُسي الألم ، ولكن بقي الأجر .

وآل ياسر الذين عذّبهم المشركون حتى أزهقوا روح أبيه وأمه رضي الله عنهم أجمعين ؟! بأي ذنب قُتِلا ؟! وما كانت جَرِيرتهما ؟!
اللهم ليس إلا الإيمان بالله العزيز الحميد .
فخرجوا بذلك من أرض مكة إلى روضة من رياض الجنة ، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لهم : ” صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ “.
أخرجهم المشركون من الدنيا ، كما أخرج الكافرون لوطًا من قبل ، فقالوا : ” أَخۡرِجُوۤا۟ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرۡیَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسٌ یَتَطَهَّرُونَ “.

ستمُر الأيام سريعًا ، قُتِل ياسر وقُتِلت سمية ، ومن بعدهما قُتل أبا جهل ، فيا تُرى من الفائز في النهاية ؟ القاتل أم المقتول ؟

” أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَـٰكُمۡ عَبَثًا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ “.

سيأتي يوم عظيم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، في هذا اليوم سيأتي كل الذين عَذَّبُوا المسلمين على مر العصور ، فيُغمَسون غمسة واحدة في نار جهنم ، سيكتشفون من بعدها ، بل وفي أثنائها ، أن العذاب الذي عذَّبوه للمؤمنين في الدنيا ، رغم شدته ، لا يكاد يعدل غمسة واحدة في نار جهنم . غمسة واحدة في النار ستُنسيهم سعادة الدنيا كلها ، فكيف بالخلود فيها ؟!! والعياذ بالله .
وفي نفس الوقت سيأتي بلال وياسر وسمية رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم ، والذين عُذِّبوا في سبيل الله ، سيأتي هؤلاء يوم القيامة ، ويُغمَسون غمسة واحدة في الجنة وسوف ينسون شقاء الدنيا كلها .
فأي جهل وغباء وحماقة يتّصف به أولئك المعذِّبون لغيرهم ؟!
” أَلَا یَظُنُّ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَنَّهُم مَّبۡعُوثُونَ * لِیَوۡمٍ عَظِیمٍ “.

في أي شرع ، وفي أي ملة ، وفي أي قانون يُعذَّب الإنسان لإجباره على الإيمان بما لا يعتقده ؟!
هذا ما كان يحدث في مكة !
خبَّاب بن الأرتّ رضي الله عنه ظهره مليء بالحُفَر من أثر الفحم الملتهب ، فكانوا يضعون الصخرة العظيمة على صدره حتى لا يستطيع أن يقوم . فصبر خبَّاب رضي الله عنه وتحمَّل ؛ والطريق طويل وشاق ، ولكن يذهب الألم ويبقى الأجر إن شاء الله .
وزِنِّيرة والنهدية وابنتها وأم عبيس ، رضي الله عنهنّ أجمعين .

كانت مكة في تلك الفترة قد تحولت إلى سجنٍ كبير تُهان فيه الإنسانية ، ويرتع فيه وحوش الكفر .

واشتد تعذيب المؤمنين في مكة ، حتى كاد المسلمون أن يُستأصلوا بالكلية ، وكان من السهل أن يُنقذ اللهُ حبيبه صلى الله عليه وسلم ، ويُنقذ المؤمنين المستضعفين بكلمة ” كُن ” فيكون ، ولكن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلمنا أن نأخذ بالأسباب ، ونزل قوله تعالى : ” لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ “.
ففكَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسيلة جديدة لمجابهة طُغاة مكة ، وهي الهجرة من أرض مكة إلى أرض أخرى جديدة ليس فيها تعذيب أو إيذاء ، ليس فيها استئصال للدعوة .
وكان السبب الأول في الهجرة التي قرَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حماية الدعوة ، ولكن ما هو المكان الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهاجر إليه المسلمون ؟!

هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة إن شاء الله .

ندعوكم لقراءة : التخطيط للهجرة إلى الحبشة

Exit mobile version