كما يقول الكتاب

شكر النعمة وكفرها

شكر النعمة وكفرها :

قالوا ، وما أصدق ما قالوا : من لم يشكر الله على نعمه فقد تعرض لزوالها ، ومن شكره عليها فقد قيدها بعقالها .

يقول الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين : ” لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ “. (سبأ من 15 : 19)

لقد كفروا بالنعمة ، وضيعوا الشكر ، ففرقهم الله في البلاد ، وأذلهم بين العباد ، وشردهم في كل واد .

وإلى التفاصيل :

من قصص القرآن الكريم قصة : ( سبأ ) ، وهذه القصة تبين لنا سُنَّة من سُنَن الله في خلقه ، وهي أن الله سبحانه وتعالى ينعم بالخيرات على عباده المؤمنين ، ويفيض من رحمته على عباده الشاكرين ، فإذا تغيرت أحوال الناس ، فكفروا بعد إيمانهم ، وجحدوا بعد شكرهم ، ومنعوا بعد عطائهم ، فسلب الله منهم هذا النعيم ، فبدَّل أمنهم خوفًا ، ورغد عيشهم ضنكًا ، وجعل رزقهم كدًّا .

– أحداث القصة :

يقول سبحانه : ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) ، وسبأ ، هي الآن مدينة من مدن بلاد اليمن ، كان يسكنها قديمًا رجلٌ من العرب اسمه : (سبأ ) ، وسُمِّي المكان باسمه ، وصارت من بعده بلادًا يسكنها الكثير من قبائل العرب ، وقد أنعم الله على أهل هذا القرية ( سبأ ) ، فكانت مساكنهم ومعيشتهم آية من آيات الله في كونه ، كانت لهم جنتان ، عن يمين الوادي وشماله ، تسقط عليها الأمطار ، وتجري من بينها الأنهار ، فتنبت الأشجار ، وتنضج الثمار وتتساقط ، فكانت المرأة تخرج بمكتلها فوق رأسها ، فتمشي بين الأشجار ، فيمتلأ مكتلها بكل أنواع الفواكه ، والثمار ، وما مست بيدها فرعًا ولا غصنًا ، فتعود إلى بيتها ، وهي تحمل ما لذ وطاب من الفواكه والطعام : ( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) ، فقد كانت مساكنهم غاية في الجمال ، وهواؤها غاية في النقاء ، ويأتيهم رزقهم رغدًا من كل مكان ، بل قيل أنه لم يكن في قريتهم حشرات ولا هوام حتى لا تخيفهم أو تقلقهم ، فبلدهم بلد طيب ، طيبٌ في مأكله ومشربه ، وفي مسكنه وهوائه ، وفي أمنه وأمانه ، وكان لهم سد يحجز وراءه المياه ، فلا تغرقهم الفيضانات والسيول ، بل ويستفيدون من الماء في أوقات الجفاف ، نعم ( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) وكان المطلوب منهم أن يشكروا المُنْعِم ، وأن يعبدوا الله ، وأن يصدقوا رسله ، وأن يعملوا بما أمرهم الله به ، ( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) ، ولكن الإنسان من طبعه الجحود والنكران ، من طبعه الغفلة والنسيان ، من طبعه الكفر والإعراض والعناد والطغيان ، فماذا كان موقف أهل سبأ من هذه النعم : ( فَأَعْرَضُوا ) ، أعرضوا عن شكر الله ، أعرضوا عن طاعة الله ، أعرضوا عن الإيمان به ، وكذبوا الرسل ، بل وصدوا عن سبيل الله ، فقد قيل : إن الله سبحانه وتعالى ، أرسل إليهم ثلاثة عشر نبيًّا ، فلم يستجيبوا لهم ، فماذا ترتب على ذلك ؟ ( فَأَعْرَضُوا ) : ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ) ، فلما أراد الله إهلاكهم سلَّط عليهم من الهوام والحشرات من ينقب سدهم ، فانهار السد ، وغرق الناس ، والمساكن ، والحدائق والبساتين ، وتحولت معيشتهم من الرغد إلى الضنك ، ومن الغنى إلى الفقر والقحط ، وأصبح لا ينبت في هذا الوادي إلا الأشجار التي لا تثمر ، ولا ينتفع بها الإنسان ( وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ).

وربما يسأل سائل ، لِمَ غيَّر الله حالهم عنه ؟ ولِمَ أنزل الله عليهم هذا العقاب ؟

فتجيب الآيات : ( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) ، فهذا جزاء من كفر وجحد نعم الله ، هذا جزاء من أعرض عن ذكر الله وشكره ، هذا جزاء من بَدَّل إيمانه كفرًا ، وضلالًا ، وفسادًا في الأرض بعد إصلاحها ، جزاؤه الهلاك والدمار وضنك العيش وضيق الرزق ، والخوف والهلع ، والحروب والقتل ، والظلم والعدوان فيما بينهم .

هذه هي سنة الله في خلقه ، فمن أسلم لله وجهه ، وشكر لله نعمه ، وابتعد عما يسخطه ، وصَدَّق المرسلين ، فجزاؤه ( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) ، وأما من أسلم للشيطان وجهه ، وصَدَّق ابليس في وعده ، وكفر بنعمة ربه ، وأعرض عما جاء به المرسلون ( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) ، وتلك هي سنة الله في خلقه ، وهي سنن لا تتغير ولا تتبدل ، يقول سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ). (الأنفال : 53)

ندعوكم لقراءة : وكنتم أزواجًا ثلاثة

– دروس وعبر :

قال أحد العلماء تعليقًا على هذه القصة المعبرة :

{ من هذه القصة القرآنية نتعلم دروسًا وعبرًا ، ومنها : أن السبب فيما نحن فيه اليوم من قتل وقتال وتخريب ، وفقر وضنك ، وظلم وعدوان ، وخوف وهلع وعدم استقرار ، والشكوى من سوء الأخلاق ، وتغير الأحوال ، كل ذلك عقوبة من الله جزاء إعراضنا عن منهجه وشرعه ودينه ، وتقصيرنا في الاقتداء برسله ، ولن يتغير هذا الواقع إلا بعد أن نغير نحن ما بأنفسنا ، ومن ظن أن الحال سوف يتغير إلى الأفضل دون أن نغير نحن أنفسنا ونعود الى ربنا فهو واهم ، بل ومكذب بسنن الله الربانية ، بل أقول : إن الأمر سوف يزداد سوءً عامًا بعد عام ، إن لم ننتبه من غفلتنا ، ونصحو من رقدتنا ، ونغير حالنا ، ونعلن توبتنا ورجوعنا إلى واهب النعم ، ومدبر الكون ، قال تعالى : ” وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ” (الأعراف : 96-99) ، فالعلاج بأيدينا ، والخطوة الأولى من عندنا ، كما في صحيح البخاري : « وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِى يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً » ، هذا هو هدف من أهداف القصة ، لمن شاء أن يعتبر ، قال تعالى : ” لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ” (يوسف : 111) }.

زر الذهاب إلى الأعلى