كما يقول الكتاب

رجل خلد عمله

رجل خلد عمله :

قال الله تعالى في كتابه العزيز :
” وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ “. (يس : 20)

رجلٌ خُلِّدَ عملُه ولم يذكر القرآن اسمه ؛ ما أكرمه على الله .

اجتهد المفسرون في معرفة اسمه ، ولكن ربه الذي تولاه ، لم يذكر اسمه حتى يُخَلِّد عمله ، دون اسمه ، وهذه هي إرادة الملك جل في علاه .

فليس المهم مَنْ أنت ، أو ما اسمك ، ولكن المهم ماذا قدمتَ لنصرة دينك الحق ؛ دينك ، دينك ، لحمك ، دمك .

المهم نيتك ، وإخلاصك ، يطلع عليهما الملك جل في علاه ، أما الناس فلا شأن لهم بثوابٍ ولا عقاب .

اجعل عملك في مرضاته جل في علاه ، سواء علم الناس اسمك أو جهلوه ؛ فكم من أناس قدموا بين يدي الله عز وجل أعمالًا لخدمة دينهم ولا يعرفهم أحد ، والدليل ” ورسلًا لم نقصصهم عليك “ ؛ فهناك رسل لم يعرف خاتمهم صلى الله عليه وسلم أسماءهم ، ولكن الذي أرسلهم يعرفهم حق المعرفة .

قال الإمام القرطبي رحمه الله :
وقوله ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ) يقول : وجاء من أقصى مدينة هؤلاء القوم الذين أرسلت إليهم هذه الرسل رجل يسعى إليهم ؛ وذلك أن أهل المدينة هذه عزموا ، واجتمعت آراؤهم على قتل هؤلاء الرسل الثلاثة فيما ذكر ، فبلغ ذلك هذا الرجل ، وكان منزله أقصى المدينة ، وكان مؤمنًا ، وكان اسمه فيما ذكر ” حبيب بن مري “.

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار .

ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : ثنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن أبي مُجِلِّز ، قال : كان صاحب يس ” حبيب بن مري “.

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : كان من حديث صاحب يس فيما حدثنا محمد بن إسحاق فيما بلغه ، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه اليماني أنه كان رجلًا من أهل أنطاكية ، وكان اسمه ” حبيبًا ” وكان يعمل الجَرير ، وكان رجلا سقيمًا ، قد أسرع فيه الجذام ، وكان منـزله عند باب من أبواب المدينة قاصيًا ، وكان مؤمنًا ذا صدقة ، يجمع كسبه إذا أمسى فيما يذكرون ، فيقسمه نصفين ، فيطعم نصفًا عياله ، ويتصدق بنصف ، فلم يهمَّه سقمه ولا عمله ولا ضعفه ، عن عمل ربه ، قال : فلما أجمع قومه على قتل الرسل ، بلغ ذلك : ” حبيبًا ” وهو على باب المدينة الأقصى ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم بالله ، ويدعوهم إلى اتباع المرسلين ، فقال ( يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ).

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبدالله بن عبد الرحمن بن معمر بن عمرو بن حزم أنه حُدث عن كعب الأحبار قال : ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فجعل يقول : أتشهد أن محمدًا رسول الله ؟ فيقول : نعم ، ثم يقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول له : لا أسمع ، فيقول مسيلمة : أتسمع هذا ، ولا تسمع هذا ؟ فيقول : نعم ، فجعل يقطعه عضوًا عضوًا ، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه ، قال كعب حين قيل له اسمه ” حبيب ” : وكان والله صاحب يس اسمه ” حبيب “.

– يكفيه فخرًا :

يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي رحمه الله تعالى في كتابه [ الوسيط ] :
يكفيه فخرًا هذا الثناء من الله -تبارك وتعالى- عليه بصرف النظر عن اسمه أو صنعته أو حاله ؛ لأن المقصود من هذه القصة وأمثالها في القرآن الكريم هو الاعتبار والاقتداء بأهل الخير .
وعبر هنا بالمدينة بعد التعبير عنها في أول القصة بالقرية للإشارة إلى سعتها ، وإلى أن خبر هؤلاء الرسل قد انتشر فيها من أولها إلى آخرها .
والتعبير بقوله : يَسْعى : يدل على صفاء نفسه ، وسلامة قلبه ، وعلو همته ، ومضاء عزيمته ، حيث أسرع بالحضور إلى الرسل وإلى قومه ، ليعلن أمام الجميع كلمة الحق ، ولم يرتض أن يقبع في بيته -كما يفعل الكثيرون- بل هرول نحو قومه ، ليقوم بواجبه في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .

وقوله -تبارك وتعالى- : قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ بيان لما بدأ ينصح قومه به بعد وصوله إليهم .
أي : قالَ لقومه على سبيل الإرشاد والنصح يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ الذين جاءوا لهدايتكم إلى الصراط المستقيم ، ولإنقاذكم من الضلال المبين الذي انغمستم فيه .

ندعوكم لقراءة : مؤمن أصحاب القرية

– أعمال النيات :

رحم الله أحد العلماء إذ يقول : { وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلّا ، فانه ما أُتىَ على كثير من الناس إلا من تضيع ذلك }.

عليك يا عبدالله أن تفعل الطاعة خالصة لله وحده ، لا تريد بها تعظيمًا من الناس ولا توقيرًا ، ولا جلب نفع ديني ، ولا دفع ضرر دنيوي .

فالإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة .

والإخلاص -كذلك- تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين .

يقول بعضهم : { المخلص هو : الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل ، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله }.

يقول سفيان الثوري رحمه الله : { ما عالجت شيئًا أشد عليّ من نيتي ؛ إنها تتقلبُ عليّ }.

– مدار الإخلاص :

مدار الإخلاص في كتاب اللغة على الصفاء والتميز عن الأشواب التي تخالط الشيء ، يقال : هذا الشيء خالص لك : أي لا يشاركك فيه غيرك والخالص من الألوان عندهم ما صفا ونصع .

– رسل لم تُذكر أسماؤهم :

قال الله عز وجل :
” وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا “. (النساء : 164)

وقوله ( ورسلًا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلًا لم نقصصهم عليك ) ؛ أي : من قبل هذه الآية ، يعني : في السور المكية وغيرها .

وهذه تسمية الأنبياء الذين نص على أسمائهم في القرآن ، وهم : آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، ويونس ، وداود ، وسليمان ، وإلياس ، واليسع ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى [ عليهم الصلاة والسلام ] وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين ، وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم .

وقوله : ( ورسلًا لم نقصصهم عليك ) أي : خلقًا آخرين لم يُذكَروا في القرآن .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى