حصار المسلمين في شعب أبي طالب 2 :
( ٤٨ ) الحلقة الثامنة والأربعون من سيرة الحبيب ﷺ :
تعالوا نبدأ الكلام بالصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الكرام .
عرفنا في الحلقة الماضية كيف عقدت قريش اجتماعًا طارئًا في خَيْف بني كنانة ، لمواجهة تحالف بني هاشم وبني عبد المطلب من أجل الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ( وخيف بني كنانة هو موضع في مِنى ، وقد سُمّي مسجد الخيف الموجود في مِنى حاليًا نسبة لهذا المكان ).
وكانت نتيجة هذا الاجتماع الاتفاق على حصار ومقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب ، فلا يناكحوهم ( أي لا يزوّجونهم ) ولا يتزوجون منهم ، وأن لا يبيعون لهم ولا يشترون منهم ، وأن لا يجالسوهم ، ولا يخالطوهم ، ولا يدخلوا بيوتهم ، ولا يكلموهم ، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحًا أبدًا ، ولا تأخذهم بهم رأفة أبدًا حتى يُسْلموا رسول الله ﷺ لهم للقتل .
وبعد توثيق الصحيفة قاموا بتعليقها في الكعبة كأنها شيء مقدس .
وكان السبيل الوحيد لفك هذا الحصار الظالم هو تسليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيًّا ليقتله زعماء الكفر بمكة .
ورأينا في الحلقة الماضية صورًا من حصار المسلمين في شعب أبي طالب ومعاناة المؤمنين وحلفائهم بسبب الجوع والعطش الذي أنهكهم ، وكيف كانت صرخات الصبيان وبكائهم تتعالى من الجوع حتى تُسمَع خارج الشِّعب .
وقد حاول بعض الشرفاء من أهالي مكة إدخال بعض المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين في الشِّعب ، في الخفاء ، بدون علم قريش ، لكنها ظلت في مجموعها مساعدات قليلة لا تكفى لسد الاحتياجات الأساسية من الطعام والشراب .
واليوم نستكمل قصة ذلك الحصار الغاشم ، ونعرف كيف تفانى أبو طالب في حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء الحصار .
فقد وقف أبو طالب كعادته موقفًا عظيمًا شريفًا في حماية النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان يبيت الليل مستيقظًا ، يحمل سلاحه ، ويطوف في الشِّعب مع جماعة من بني هاشم ، ثم ينامون في النهار ، وكان يأمر حمزة والعباس رضي الله عنهما أن يرابطا على مدخل الشِّعب ليرصدا تحركات المشركين ، خوفًا من أي محاولات غادرة تستهدف حياة ابن أخيه صلى الله عليه وسلم .
ولقد بلغ خوف أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أخذ الناس مضاجعهم للنوم ، يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه ، حتى يرى ذلك الناس ، خاصةً من أراد أن يرصده ويعلم مكانه ، فإذا نام الناس كان يأمر أحد بنيه أو أحد إخوانه ( أي أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بني عمه ) أن يضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويأمره صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم .
ومضت الأيام ، حتى مرت ثلاثة أعوام كاملة ، وقريش مصرة على حصار بني عبد مناف ( بني هاشم وبني المطلب ) ، وأصبح الحال لا يُطاق وقريش كانوا بين راضٍ بهذا الميثاق وكاره له .
وفي المحرم في السنة العاشرة من البعثة سعى في نقض الصحيفة واحد ممن كان كارهًا لها ، وهو هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي ، وهو الذي ذكرنا في الحلقة الماضية أنه كان يصل بني هاشم بالطعام في الشِّعب مستخفيًا بالليل ، فقد أصبح همُّه وشغله الشاغل كيف يتمكن من فك الحصار ورفع الظلم عن بني هاشم وبني المطلب ؟؟
ولكن ماذا يستطيع أن يفعل وهو فرد من قبيلة صغيرة بمكة ، ولا يمكنه التصدي لأبي جهل المتزعم للمقاطعة ، وهو سيد بني مخزوم ، وهي من أكبر قبائل قريش ؟
اختار هشام بن عمرو رجلًا من بني مخزوم ، وهو زهير بن أبي أمية المخزومي ، فأمه هي عاتكة بنت عبد المطلب ، أخت أبي طالب وعمة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فذهب هشام بن عمرو إلى زهير بن أبي أمية المخزومي ، وفي محاولة مخلصة لكسب مشاعره واستمالة عواطفه ، واستثارة لنزعة الكرامة عنده ، قال له : يا زهير ، أقد رضيتَ أن تأكل الطعام ، وتلبس الثياب ، وتنكح النساء ، وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ؟
ثم بعد ذلك ضرب على وتر الحمية والتحدي لأبي جهل فقال : أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ( يعني أبا جهل ) ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ، ما أجابك إليه أبدًا .
وهنا قال زهير : ويحك يا هشام ! فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد ، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها .
وعلى الفور كان أن فاجأَه هشام بن عمرو بأن قال له : قد وجدت رجلًا ، فقال زهير : من هو ؟ قال : أنا .. ولأن الموقف كان في غاية الصعوبة ، فقد رد زهير بقوله : أبغنا ثالثًا .. فلم ييئس هشام بن عمرو ، فترك زهيرًا وذهب إلى رجل آخر مشهور بأخلاقه ، وهو المُطعِم بن عَديّ من بني نوفل ، وقد ذكّره بأرحام بني المطلب وبني هاشم ، ولامه على موافقته للظلم الذي وقع عليهم ، وهنا قال له المُطعِم : ويحك ! فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد .. فقال له هشام : قد وجدتُّ لك ثانيًا .. قال : من ؟ قال : أنا .. قال المُطعِم : أبغنا ثالثًا .. وهنا فَاجَأَهُ أيضًا هشام وقال : قد فعلت .. قال : من هو ؟ قال : زهير بن أبي أمية .. ولأن المهمة كانت عسيرة حقًا ، قال المُطعِم : أبغنا رابعًا .. وفكر هشام بن عمرو ، فهُدي إلى أبي البختري بن هشام .. ومن فوره ذهب إليه هشام وقال له نحو ما قال للمُطعِم .. فقال أبو البختري : وهل تجد أحدًا يُعين على هذا ؟! فقال هشام : نعم ، زهير بن أبي أمية ، والمُطعِم بن عدي ، وأنا معك .. وكسابقه رد أبو البختري أيضًا بقوله : أبغنا خامسًا .. إنه لمجهود ضخم حقًا ذلك الذي قام به هشام بن عمرو ! على الرغم من أنه لم يكن مسلمًا ، ولم يكن من بني هاشم ولا من بني عبد المطلب ، ولكنها رقة القلب والمشاعر الإنسانية النقية الأصيلة .. فأسرع هشام بن عمرو من جديد وكله حمية يبحث عن خامس ، فذهب إلى زمعة بن الأسود ( من بني أسد ) .. فقال له زمعة : وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد ؟ فقال : نعم .. ثم ذكر له الأربعة السابقين ، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي .. واجتمع الرجال الخمسة عند الحجون ( وهو جبل بمكة تقع عند سفحه مقبرة أهل مكة القديمة ) ، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة .. فهل يا تُرى سينجحون في ذلك ؟
سنعرف ذلك في الحلقة القادمة بإذن الله .
ونختم بخير ختام وهو الصلاة والسلام على نبينا الأمين وآله وصحبه الكرام .