حب الصحابة للنبي ﷺ 2

تابع حب الصحابة للنبي ﷺ :

( ٣ ) الحلقة الثالثة من سيرة الحبيب ﷺ :

تعالوا الأول نصلِّ على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .

نكمل في هذه الحلقة حديثنا عن جانب من حب الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم .

ونبدأ بالصحابية الجليلة أُمُّ سُلَيْم بنت ملحان رضي الله عنها ، أم الصحابي المعروف أنس بن مالك الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه .

تعالوا نرى سويًا جانب بسيط من حبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

لما قدم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أرادت أن تقدم له هدية كما فعل غيرها من نساء الأنصار ، فلم تجد شيئًا تقدمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ سوى فلذة كبدها أنس بن مالك ، وكان يبلغ من العمر آنذاك عشرة أعوام .

قال أنس رضي الله عنه :
جاءت بِي أُمِّي أُمُّ أَنَسٍ إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم ، وقد أَزَّرَتْنِي بنصف خِمَارِهَا ( أي جعلته إزارًا لي يغطي نصف جسدي الأسفل ) وَرَدَّتْنِي بنصفه ( أي جعلته رداءً لي يغطي نصف جسدي العلوي ) ، فقالت : ” يا رسولَ اللهِ ، هذا أُنَيْسٌ ابْنِي ، أَتَيْتُكَ به يَخدُمُكَ فَادعُ اللهَ له ” ، فقال : ” اللَّهُمَّ أَكثِر مَالَهُ وَوَلَدَهُ “.

قال أنس رضي الله عنه : ” خدمتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ عَشرَ سنينَ فما قالَ لي : أُفٍّ قَطُّ ، وما قالَ لِشيءٍ صنعتُهُ لِمَ صنعتَهُ ، ولا لشيءٍ ترَكتُهُ: لِمَ تركتَهُ ؟ وكانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ مِن أحسنِ النَّاسِ خُلُقًا ، وما مسِستُ خزًّا قَطُّ ولا حَريرًا ولا شيئًا كانَ أليَنَ مِن كفِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ ، ولا شمِمتُ مِسكًا قَطُّ ولا عِطرًا كانَ أطيَبَ مِن عَرَق رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ “.

ويحكي لنا أنس رضي الله عنه أحد المواقف التي حدثت معه أثناء خدمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنتبيَّن منها مدى رحمته صلى الله عليه وسلم وشفقته بالصبيان ، فيقول أنس رضي الله عنه :
كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أحسَنِ النَّاسِ خُلُقًا ، فأَرسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ .
قال : فَخَرَجْتُ حتَّى أَمُرَّ علَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ في السُّوقِ ( يعني أن سيدنا أنس رضي الله عنه وهو في طريقه مرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق ، فلعلَّه وقف عندهم ، إمَّا للَعِبٍ أو للتَّفَرُّج ).

قال أنس رضي الله عنه : فَإِذَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ قَبَضَ بقَفَايَ مِن وَرَائِي ، قالَ : فَنَظَرْتُ إلَيْهِ وَهو يَضْحَكُ ، فَقالَ : ” يا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ ؟ “.
قالَ قُلتُ : نَعَمْ ، أَنَا أَذْهَبُ ، يا رَسولَ اللهِ .

بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ؛ لم يعنفه ولم يزجره عندما نسي وتأخر في تنفيذ أمره ، أرحم الخلق صلى الله عليه وسلم .

ويروي لنا أنس رضي الله عنه قصة أخرى تبين لنا حب أمه ( أم سُلَيْم ) للنبي وتبركها به صلى الله عليه وسلم فيقول :

كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ علَى فِرَاشِهَا ، وَليسَتْ فِيهِ ، قالَ : فَجَاءَ ذَاتَ يَومٍ فَنَامَ علَى فِرَاشِهَا ، ( وكانت من محارمه صلى الله عليه وسلم ) فَأُتِيَتْ فقِيلَ لَهَا : هذا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَامَ في بَيْتِكِ ، علَى فِرَاشِكِ ، قالَ فَجَاءَتْ وَقَدْ عَرِقَ ، وَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ علَى قِطْعَةِ أَدِيمٍ ، علَى الفِرَاشِ ، فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ ذلكَ العَرَقَ فَتَعْصِرُهُ في قَوَارِيرِهَا ، فَفَزِعَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ : ” ما تَصْنَعِينَ يا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ ” ، فَقالَتْ : يا رَسولَ اللهِ ، نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا ، قالَ : ” أَصَبْتِ “.

فأم سُلَيْم رضي الله عنها أخذت تنشِّف عرق النبي صلى الله عليه وسلم وتعصره في زجاجات عندها لتحتفظ به كأطيب العطور التي تتبرك بها هي وصبيانها .

حقًا ما أشد فطنتها وحبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومن الصحابة الذين لا يعرفهم الكثير منا سيدنا ” زاهر ” رضي الله عنه .
كان زاهرٌ رضي الله عنه دَميمَ الخِلقَةِ ( أي لم يكن جميل الوجه ) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ، وكان من أهل البادية ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسكن في المدينة .
فكان زاهر رضي الله عنه يُهدي للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم لما كان يذهب إلى المدينة ، فكان يأخذ أشياء من البادية للنبي صلى الله عليه وسلم .. والنبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه أحدٌ شيئًا إلا كافئه به .. فكان النبي صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم يقول : ” إنَّ زاهِرًا باديَتُنا ، ونحن حاضِروه ” ( أي إذا جاء الحضر ينزل عندنا ، لكن هو من البادية ، هو باديتنا إما أن يأتي لنا بأشياء ، ونحن إذا نزلنا البادية ننزل عليه ).

وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم يُجَهِّزُه إذا أراد الخُروجَ إلى البادِيَةِ ، فأتاه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم ذات يوم وهو يَبيعُ شيئًا له في السُّوقِ فاحتَضَنه مِن خَلفِه ( أي جاء صلى الله عليه وسلم من خلفه دون أن يشعر به واحتضنه من الخلف كما نفعل نحن مع بعض ) ، فقال له : أرسِلْني ، مَن هذا ؟ ( أي اتركني ) ، والتَفَت فعرَف النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم ، فجعَل النبي صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم يقولُ مازحًا :
” مَن يَشْتَري العَبدَ؟ “.
وجعَل هو يَلصِقُ ظهرَه بصدرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم ويقولُ : إذَنْ واللهِ تَجِدُني كاسِدًا ( أي بضاعة لا قيمة لها ) ، فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم : ” لكِنْ عِندَ اللهِ لستَ بكاسِدٍ .. أو قال : لكِنْ عِندَ اللهِ أنتَ غالٍ “.

بأبي هو وأمي ما ألطفه وأرحمه صلى الله عليه وسلم !

ندعوكم لقراءة : صفة رسول الله ﷺ

والآن مع أجمل قصة حب ؛ حب أمنا عائشة رضي الله عنها للمصطفى صلى الله عليه وسلم .

ونحن إذا ما أردنا الحديث عن حب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم فلن تكفينا عشرات الحلقات .. فيكفينا اليوم أن نتحدث عن لمحة بسيطة من حبها له وغيرتها الشديدة عليه صلى الله عليه وسلم .

كانت رضي الله عنها بيضاء شديدة الحُسن يسميها النبي صلى الله عليه وسلم ” الحُمَيْراء ” لجمالها وكان كثيرًا ما يناديها يا ” عائش ” تدليلًا وملاطفةً لها إذ كانت شديدة الحظوة لديه صلى الله عليه وسلم .. وهي الوحيدة من بين أمهات المؤمنين رضي الله عنهنّ التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بِكرًا ( أي لم تتزوج رجلًا قبله صلى الله عليه وسلم ) ، فلذلك كانت تغار عليه صلى الله عليه وسلم غيرةً شديدة .

واستمعوا لهذه القصة الطريفة التي يرويها لنا أنس بن مالك رضي الله عنه ، لتتبينوا مدي حبها للمصطفى صلى الله عليه وسلم .

يقول أنس رضي الله عنه :
كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عندَ إحدى أمَّهاتِ المؤمنينَ ( وهي عائشة رضي الله عنها ) فأرسلت أُخرى ( أي زوجة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم ) بقصعةٍ ( وهو إناء من خشب ) فيها طعامٌ فضربت يد الرَّسولِ ( أي : ضربت عائشة -لغيرتها- يد الخادم الذي معه الطعام) فسقطتِ القصعةُ فانكسرت ، فأخذَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الكسرتينِ فضمَّ إحداهما إلى الأخرى فجعلَ يجمعُ فيها الطَّعامَ ويقولُ : ” غارت أمُّكم كلوا ” ،
فأكلوا ، حتَّى جاءت بقصعتِها الَّتي في بيتِها ( يعني جاءت عائشة رضي الله عنها بإناء آخر من بيتها بدلًا عن الإناء الذي كسرته ) فدفعَ القصعةَ الصَّحيحةَ إلى الرَّسولِ ( يعني الخادم ) وترَك المَكسورةَ في بيتِ الَّتي كسرتها .

انظروا إلى حُسنُ خُلُقهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإنصافُه وحِلمُه !

فقد عاملَ زَوجتَه بالتي هي أحسَنُ لأن الغيرة قد تقع من أفضل النساء لأنها مُرَكَّبةٌ في النَّفْسِ ، بحيث لا يُقدَرُ على دَفْعِها .

لم يغضب ولم ينهرها ولم يعبس في وجهها ، بل لم يزد عن قوله لمن كان حاضرًا عنده من الصحابة :
” غارَتْ أُمُّكُم ” ؛ اعتِذارًا منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِئلَّا يُحمَلَ صنيعُها على ما يُذَمُّ !

اللهم صل وسلم وبارك على صاحب الخلق العظيم .

كذلك فإن هذه القصة تعلمنا أدب صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم أنس رضي الله عنه راوي هذا القصة ، وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته وتوقيرهم إذ لم يذكر اسم الزوجة التي كسرت القصعة مع علمه بها رضي الله عنهم أجمعين .

تأدبوا بأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم واهتدوا بهديه فصاروا شموسًا تنير الدنيا بأسرها .

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وفي الحلقة القادمة نكمل الحديث بإذن الله تعالى .

Exit mobile version