تفاوض قريش مع الرسول ﷺ لصرفه عن دعوته 2 :
( ٤٥ ) الحلقة الخامسة والأربعين من سيرة الحبيب ﷺ :
فلنبدأ الكلام بالصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الكرام .
عرفنا في الحلقات الماضية كيف كان إسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما عِزًا ونصرًا للمسلمين ، وكيف أخذ الإسلام في الانتشار بمكة بين الرجال والنساء في مختلف قبائل قريش .. ولقد أزعج ذلك قريشًا كثيرًا ، ففكر كفار قريش في إرسال مندوب للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم بشأن دعوته ، ووقع الاختيار على عتبة بن ربيعة ، وكان من حكماء قريش .
ولقد قصصنا في الحلقة الماضية كيف حاول عتبة صرف النبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته للحق بإغرائه بالسيادة تارة ، وبالمال تارة أخرى ، حتى أنه عرض عليه أن يحضر له كبار الأطباء لعلاجه مما يينتابه أحيانًا ( وكان يقصد الوحي الذي يتنزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم )!!
وبالرغم من سفاهة العرض ، وما يحمله من إهانة وتكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن المصطفى ﷺ كان حليمًا كعادته ، وأنصت لعتبة حتى فرغ من كلامه ثم تلا عليه آيات من القرآن ، من سورة فُصِّلَت ، ولما انتهى من قراءته كاد قلب عتبة أن ينخلع من هول ما سمعه من تهديد ووعيد للمكذبين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، ورجع إلى مشركي قريش مسرعًا ليخبرهم بما حدث .
وكان الذي حدث بين عتبة بن ربيعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم إيذانًا بفشل المفاوضات بين المشركين وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان المشركون يسعون لحل سلمي في رأيهم ، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن الحل السلمي ليس معناه التنازل ، بل يكون بحفظ الحقوق ، وأولها حق الله تعالى ، فلا يجوز لمفاوض ولا معاهد أن يبني عهده وميثاقه على مخالفة لحق الله .
ولم يتوقف مشركو قريش عن محاولاتهم صرف النبي صلى الله عليه وسلم ، بالرغم مما رأوه من ثباته صلى الله عليه وسلم على الحق ، واستمساكه بما يوحى إليه ، فقالوا : تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة ، فنزل قوله تعالى : { قُلۡ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡكَـٰفِرُونَ * لَاۤ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ…. } ، وأنزل الله تعالى قوله : { قُلۡ أَفَغَیۡرَ ٱللهِ تَأۡمُرُوۤنِّیۤ أَعۡبُدُ أَیُّهَا ٱلۡجَـٰهِلُونَ } إلى قوله : { بَلِ اللهَ فَٱعۡبُدۡ وَكُن مِّنَ ٱلشَّـٰكِرِینَ }.
لكن المشركين لم ييأسوا ، وظلَّت قريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين .
ويُروى أنه ذات يوم ، اجتمع عدد من زعماء قريش وسادتها عند الكعبة ، وكان من بينهم عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ، والنَّضر ابن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، وعبدالله بن أبي أُمَيَّة ، وأُمَيَّة بن خلف .
فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فَأتِهم ؛ فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعًا ، وهو يظن أنهم يريدون الدخول في الإسلام ، وكان عليهم حريصًا يحب رشدهم ، ويحزنه ما هم عليه من كفر وشقاق ، فجاءهم صلى الله عليه وسلم ، وجلس إليهم .
فقالوا له :
يا محمد ، إنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعِبتَ الدين ، وسفهت الأحلام ، وشتمت الآلهة ، وفرقت الجماعة ، وما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك ، فإن كنت إنما جئت بهذا لتطلب به مالًا جمعنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالًا ، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سَوَّدناك علينا ، وإن كنت تريد مُلكًا ملَّكناك علينا ، وإن كان هذا الرئي الذي يأتيك تراه قد غلب عليك ( وكانوا يُسَمُّون التابع من الجن الرئي ) بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك !!
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا للشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله عز وجل بعثني إليكم رسولًا ، وأنزل عليّ كتابًا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا ، فبلغتكم رسالة ربي ، ونصحتُ لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم ( أو كما قال صلى الله عليه وسلم ).
لكن المشركين استمروا في جدالهم العقيم ، فقالوا : يا محمد ، إن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك علمت أنه ليس أحد أضيق بلادًا ، ولا أقل مالًا ، ولا أشد عيشًا منا ( يقصدون صعوبة العيش في الصحراء ) ، سل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك فَليُسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا ، ويبسط لنا بلادنا ، ويُجرِ فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق ، وأن يبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن ممن يبعث لنا منهم قُصيّ بن كلاب ، فإنه كان شيخًا صدوقًا ، فنسألهم عما تقول ، أحق هو أم باطل ؟ فإن صنعتَ ما سألناك صدقناك ، وعرفنا به منزلتك عند الله ، وأنه بعثك رسولًا كما تقول ، فقال لهم النبي صلوات الله وسلامه عليه : ما بهذا بُعِثتُ ، إنما جئتُكم من عند الله سبحانه بما بعثني به ، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تَرُدُّوه أصبر لأمر الله .
ولم يتوقف المشركون عند هذا الحد ، بل قالوا : فإن لم تفعل هذا فَسَل ربك أن يبعث لنا ملَكًا يصدقك ، وسَله فليجعل لكَ جِنانًا وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم في الأسواق كما نقوم ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولًا كما تزعم .
واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثباته قائلًا لهم : ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بُعِثتُ بهذا إليكم ، ولكن الله تعالى بعثني بشيرًا ونذيرًا .
فما كان منهم ، لعنادهم وكفرهم ، إلا أن قالوا : فأسقِط علينا كسفًا من السماء كما زعمتَ أن ربك إن شاء فعل .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك إلى الله إن شاء فعل .
فقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلًا .
وقال عبدالله بن أمية المخزومي : لا أؤمن بك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سُلَّمًا وترقَى فيه ، وأنا أنظر حتى تأتيها ، وتأتي بنسخة منشورة معك ، ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول !!
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه.
فتأملوا كم تحمل الحبيب المصطفى من تكذيب وسخرية واستهزاء في سبيل الله ليصل إلينا دين الإسلام !
اللهم صل وسلم وبارك عليه .
وفي الحلقة القادمة بإذن الله سنعرف المزيد عن صبر الحبيب صلى الله عليه وسلم وثباته .
وخير ختام هو الصلاة والسلام على نبينا الأمين وآله وصحبه الكرام .