تعذيب المشركين للمسلمين 1
تعذيب المشركين للمسلمين :
( ٢٥ ) الحلقة الخامسة والعشرون سيرة الحبيب ﷺ :
هيا بنا نُصَلِّ على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .
بعد أن جهر النبى ﷺ بالدعوة أسلم العديد من الناس ، ولكن كان من تبعات دخولهم في الإسلام أن تعرَّض الكثير منهم للتعذيب الشديد .
وكان مِمَّن تعرَّض لأشدِّ أنواع التعذيب سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه .
كان رضي الله عنه عبدًا لأُمَيَّة بن خَلَف ، وقد عذَّبه أُمَيَّة عذابًا شديدًا ، فكان يجعل في عنقه حبلًا ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به ويجرُّونه في طرقات مكة ، وهو يقول : أحدٌ … أحد .
وكان أُمَيَّة يخرج إلى الصحراء في وقت الظهيرة حينما تكون الرمال شديدة الحرارة -لو وُضِعَت عليها قطعة من اللحم لنضجت- ويأمر غلمانه فينزعون ثياب بلال رضي الله عنه ثم يُلبِسونه درعًا من الحديد ملتهب من أشعة الشمس ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فَتُوضع على صدره ، ثم يقول له : ستظل هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى ، فيقول : أحدٌ … أحدٌ .
وكانوا يضربونه بالسياط ( أي الكرباج ) ويأمرونه بِسَبِّ النبي عليه الصلاة والسلام ، فيرفض رضي الله عنه .
وكان يردُّ عليهم ويقول كلمته الشهيرة : أحدٌ … أحدٌ ، ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيَظُ لكم منها لَقُلتها ، رضي الله عنه وأرضاه .
ولقد كاد أُمَيَّة أن يفقد عقله من شدة ثبات بلال رضي الله عنه مع كل هذا العذاب ، فيطالبه بأن يقول كلمة الكفر فيأبى بلال رضي الله عنه .
واستمرّ تعذيب أُمَيَّة لبلال رضي الله عنه ، وهو صابرٌ ثابت .
وذات يوم ، كان أُمَيَّة بن خَلَف يضرب بلالًا بالسوط ، فمرَّ عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال لأمَيَّة : إلى متى تُعَذِّبُ هذا المسكين ؟
فقال أُمَيَّة : أنتَ أفسدته ، فأنقذه .
قال أبو بكر رضي الله عنه : نَعَم عِندِي غُلامٌ على دينك أجلَدُ منه ، وأقوى فَخُذْه مَكانَه ، فأخذ أبو بكرٍ بلالًا فأعتَقَه .
وكان صُهَيب بنُ سِنانٍ الرُّوميُّ ، وعامرُ بنُ فُهَيْرَةَ يُعَذَّبانِ في الله عذابًا شديدًا .
وكان أبو فُكَيهَةَ عبدًا لصفوانَ بنِ أُمَيَّةَ بن خَلَف الجُمحيِّ ، فأخذَه أُمَيَّةَ بن خَلَف وربط في رِجلِه حبلًا ، وأَمَرَ به فَجُرَّ ، ثم ألقاه في الرَّمضاء ، ومَرَّ به جُعلٌ ( أي دابَّة سوداء من دوابّ الأرض ) فقال له أُمَيَّة : أليس هذا ربك ؟
فقال أبو فُكَيْهَةَ : اللهُ ربي وربُّك ، وربُّ هذا .
فخنقه خنقًا شديدًا ، ومعه أخوه أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ يقول : زِدهُ عذابًا حتى يأتي محمدٌ ، فَيُخَلِّصَهُ بسحره .
ولم يزل أبو فُكَيْهَةَ على تلك الحال حتى ظنُّوا أنه قد مات ، ثم أفاق ، فمرَّ به أبو بكرٍ فاشتراه ، وأعتقه .
فطوبى للصِّدِّيق أبي بكر رضي الله عنه .
كم ضحَّى وبذل وأنفق في سبيل الله !
وأحِبَّتِنَا بلالٌ وياسر وعمَّار وصُهَيب وأبو فُكَيْهَة رضي الله عنهم ، كم ضحّوا لأجل إعلاء كلمة لا إله الا الله محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله .
أوَكان بلالٌ يدري وهو يصرخ ” أحدٌ أحدٌ ” ، أنَّ صوته سيصدع بالأذان يومًا صَدَّاحًا نَدِيًّا ؟
فلقد أصبح بلالٌ رضي الله عنه مؤذن الرسول ﷺ .
صوته الذي كان يشدو بكلمة ” أحدٌ أحدٌ ” وهو يتألَّم من شدة العذاب سوف يعلو برفع الأذان لكل صلاة ، ويكون له هذا الشرف العظيم ( مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .. وقد علا شأن بلال رضي الله عنه في الإسلام ، وصار من سادات الصحابة ، وذلك لسبقه وفضله ومعاناته في سبيل الله ، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : ” أبو بَكْرٍ سَيِّدُنَا ، وأَعتَقَ سَيِّدَنَا ” في إشارة لبلال رضي الله عنه .
ومن الذين تم تعذيبهم أيضًا تعذيبًا شديدًا :
سيدنا خَبَّاب بن الأَرَتّ رضي الله عنه ، وكان قد سُبِي صغيرًا من قبيلته تميم ، وبيع في مكة فاشترته أم أنمار الخزاعيَّة التي كانت حليفة لبني زُهرة من قريش .
وأرسلته أم أنمار إلى أحد الحدَّادِين في مكة ليُعَلِّمه صناعة السيوف ، فأتقن الصَّنعة ، وتمكَّن منها أحسن تَمَكُّن .. ولما اشتد ساعِد خبَّاب وصلب عوده استأجرت أم أنمار دُكَّانًا ، واشترت له عدة ، وجعلت تستثمر مهارته في صنع السيوف .. لم يمضِ غير قليل على خبَّاب حتى شهر في مكة ، وجعل الناس يُقبلون على شراء سيوفه ؛ لِما كان يتحلَّى به من الأمانة والصِّدق وإتقان الصَّنعة .
ويُقال أن خبَّابًا رضي الله عنه كان سادس ستة أسلموا على ظهر الأرض ، وكان إسلامه قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم .
ولم يكتم خبَّاب رضي الله عنه إسلامه .. فلما بلغ خبره أم أنمار استشاطت غضبًا وتميَّزت غيظًا ، وصَحِبَت أخاها ” سباع بن عبد العُزَّى ” ولَحِق بهما جماعة من فتيان خزاعة ومضوا جميعًا إلى خبَّاب رضي الله عنه ، فوجدوه مُنهَمِكًا في عمله ، فلما سألوه عن خبر إسلامه وأقرَّ به ، اجتمعوا عليه ، وجعلوا يضربونه بأيديهم ويركلونه بأقدامهم ، ويقذفونه بما يصلون إليه من المطارق وقطع الحديد ، حتى هَوَى على الأرض فاقدًا الوعي والدماء تنزف منه .
ولقد تعرَّض سيدنا خبَّاب رضي الله عنه لشتَّى ألوان العذاب ، لكنه تحمَّل وصبر في سبيل الله ، فكانت أم أنمار تأخذ الحديد الملتهب ثم تضعه فوق رأس سيدنا خبَّاب رضي الله عنه ، حتى يتلوَّى من شدة الألم .
وكانوا يضعون الحديد المحمي على جسده فما يُطفِئ النار إلا الدهن الموجود في ظهره ، وقد سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا عمَّا لقي من المشركين ، فقال خبَّابٌ رضي الله عنه :
يا أمير المؤمنين ، انظر إلى ظهري ، فنظر عمر رضي الله عنه ، فقال : ما رأيتُ كاليوم ! قال خبَّابٌ رضي الله عنه : لقد أُوقِدَت لي نار ، وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري ( أي أن جلده قد صهرته النار فلم يطفئها إلا الدهن الموجود في ظهره رضي الله عنه).
وكان ممن طالهم العذاب أيضًا آل ياسر رضي الله عنهم ، فقد أسلم ياسر وسمية وعمَّار ، وأخوه عبدالله بن ياسر ، فغضب عليهم مواليهم بنو مخزوم غضبًا شديدًا ، وصبوا عليهم العذاب صبًّا ، وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمَّار بن ياسر ، وبأبيه وأمه رضي الله عنهم إذا حميت الظهيرة ، يعذبونهم برمضاء مكة ( أي الرمل الحار من شدة حرارة الشمس ) ، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتألِّمًا لما يلقونه من عذاب ، فيقول ﷺ : ” أَبشِرُوا آل عَمَّارٍ ، وَآلَ يَاسِرٍ ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ “.
ولقد عذَّب عدو الله أبو جهل سمية -أم عمَّار وزوجة ياسر- عذابًا شديدًا ، وهي تأبى إلا الإسلام ، فلما أغلظت سميّة رضي الله عنها القول لأبي جهل اشتد غضبه عليها وطعنها في قُبُلِها ( أي مكان عِفَّتها ) بحربة في يديه فماتت ، لتكون بذلك أول شهيدة في الإسلام .
وقد مات ياسر رضي الله عنه من شدة العذاب أيضًا .
وأما عمَّار رضي الله عنه ، فقد شدَّدُوا العذاب عليه بالحرِّ أحيانًا ، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أحيانًا أخرى ، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه ، وقالوا له : لا نتركك حتى تَسُبَّ مُحَمَّدًا ، أو تقول في اللات والعُزَّى خيرًا ، فوافقهم على ذلك مُكْرَهَا .
وسَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ، ثم تركوه .. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما وراءَك ؟ قال : شَرٌّ يا رسولَ اللهِ ؛ ما تُرِكْتُ حتى نِلتُ منك ، وذكَرْتُ آلهتَهم بخيرٍ ، قال ﷺ : كيف تَجِدُ قَلْبَك ؟
قال : مُطمَئِنًّا بالإيمانِ .
قال ﷺ : إنْ عادوا فعُد ( أي إذا عذَّبوك لتقول كلمة الكفر مكرَهًا فقُلها مادام قلبك مطمئنًا بالإيمان ) ، فأنزل اللهُ تعالى : ” مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ “. (النحل : 106)
وفي الحلقة القادمة إن شاء الله نُكمل الحديث عن الصحابة الكِرام الذين ثبتوا وصبروا على ما نالهم من أذى في سبيل الله ، ليصل إلينا دين الله ، فرضي الله عنهم أجمعين .