بين الخليل وأبيه :
هذا حوار بين خليل الله إبراهيم ، صاحب القلب السليم ، وأبيه صاحب الفكر السقيم ، ولقد ورد ذكره في القرآن الكريم ؛ يقول الله العزيز الحكيم :
” وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطًا سَوِيًّا * يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا * يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا * قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًا جَعَلْنا نَبِيًّا * وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا “. (مريم : 41-50)
من الحوارات الرائعة والمفيدة التي ذكرها المولى عز وجل في سورة مريم : قصة خليل الرحمن إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- مع أبيه ، فقد دعاه إلى الحق ، فأبى وكان من الكافرين .
فلما رأى الخليل إبراهيم عليه السلام ذلك من أبيه وقومه ؛ اعتزلهم وتفرغ لعبادة ربه ، فوهب الله له إسماعيل وإسحاق ، وحفيده يعقوب أيضًا ، عليهم جميعًا السلام ؛ فهم أنبياء ورسل كرام .
- قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
” وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا “.
أجل الكتب وأفضلها وأعلاها ، هذا الكتاب المبين ، والذكر الحكيم .
فإن ذكر فيه الأخبار ، كانت أصدق الأخبار ، وأحقها ، وأنفعها .
وإن ذكر فيه الأمر والنهي ، كانت أجل الأوامر والنواهي ، وأعدلها وأقسطها .
وإن ذكر فيه الجزاء ، والوعد والوعيد ، كان أصدق الأنباء وأحقها وأدلها على الحكمة والعدل والفضل .
وإن ذكر فيه الأنبياء والمرسلون ، كان المذكور فيه ، أكمل من غيره وأفضل .
ولهذا كثيرًا ما يبدئ ويعيد في قصص الأنبياء ، الذين فضّلهم على غيرهم ، ورفع قدرهم ، وأعلى أمرهم ؛ بسبب ما قاموا به من عبادة الله ومحبته ، والإنابة إليه ، والقيام بحقوقه ، وحقوق العباد ، ودعوة الخلق إلى الله ، والصبر على ذلك ، والمقامات الفاخرة ، والمنازل العالية .
فذكر الله في هذه السورة ، جملة من الأنبياء ، يأمر الله رسوله أن يذكرهم .
لأن في ذكرهم إظهار الثناء على الله وعليهم ، وبيان فضله وإحسانه إليهم .
وفيه الحث على الإيمان بهم ، ومحبتهم ، والاقتداء بهم ، فقال عز من قائل : ” وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ” ، جمع الله له بين الصديقية والنبوة .
فالصديق : كثير الصدق ، فهو الصادق في أقواله ، وأفعاله ، وأحواله المصدق بكل ما أمر بالتصديق به .
وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب ، المؤثر فيه ، الموجب لليقين ، والعمل الصالح الكامل .
الخليل إبراهيم عليه السلام ، هو أفضل الأنبياء كلهم ، بعد محمد صلى الله عليه وسلم .
وهو الأب الثالث للطوائف الفاضلة .
وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب .
وهو الذي دعا الخلق إلى الله ، وصبر على ما ناله من العذاب العظيم .
فدعا القريب والبعيد ، واجتهد في دعوة أبيه مهما أمكنه .
وذكر الله مراجعته إياه فقال :
” إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ ” ، مُهَجِّنًا له عبادة الأوثان .
” يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ” ؛ أي : لِمَ تعبد أصنامًا ، ناقصة في ذاتها ، وفي أفعالها ، فلا تسمع ، ولا تبصر ولا تملك لعابدها ، نفعًا ولا ضرًّا ، بل لا تملك لأنفسها شيئًا من النفع ، ولا تقدر على شيء من الدفع .
فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص ، في ذاته ، وأفعاله ، مستقبح ، عقلًا وشرعًا .
ودل تنبيهه وإشارته ، أن الذي يجب ، ويحسن ، عبادة من له الكمال الذي لا ينال العباد نعمة إلا منه ، ولا يدفع عنهم نقمة ، إلا هو ، وهو الله تعالى .
” يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ” ؛ أي : يا أبت لا تحقرني وتقول : إني ابنك ، وإن عندك ما ليس عندي ، بل قد أعطاني الله من العلم ما لم يعطك .
والمقصود من هذا قوله : ” فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ” ؛ أي : مستقيمًا معتدلًا ، وهو : عبادة الله وحده لا شريك له وطاعته في جميع الأحوال .
وفي هذا من لطف الخطاب ولينه ، ما لا يخفى ؛ فإنه لم يقل ( يا أبت أنا عالم وأنت جاهل ) أو ( ليس عندك من العلم شيء ).
وإنما أتى بصيغة أن عندي وعندك علمًا ، وأن الذي وصل إليّ لم يصل إليك ، ولم يأتك .
فينبغي لك أن تتبع الحجة ، وتنقاد لها .
” يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ” ؛ لأن من عبد غير الله ، فقد عبد الشيطان كما قال تعالى : ” أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ “.
” إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ” ، فمن اتبع خطواته ، فقد اتخذه وليًّا وكان عاصيًا لله بمنزلة الشيطان .
وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن ، إشارة إلى أن المعاصي ، تمنع العبد من رحمة الله وتغلق عليه أبوابها .
كما أن الطاعة أكبر الأسباب لنيل رحمته ؛ ولهذا قال : ” يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ ” ؛ أي : بسبب إصرارك على الكفر ، وتماديك في الطغيان ، ” فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ” ؛ أي : في الدنيا والآخرة ، فتنزل بمنازله الذميمة ، وترتع في مراتعه الوخيمة .
فتدرج الخليل عليه السلام بدعوة أبيه ، بالأسهل فالأسهل .
فأخبره بعلمه ، وأن ذلك موجب لاتباعك إياي وأنك إن أطعتني ، اهتديت إلى صراط مستقيم .
ثم نهاه عن عبادة الشيطان ، وأخبره بما فيها من المضار .
ثم حذره عقاب الله ونقمته إن أقام على حاله ، وأنه يكون وليًّا للشيطان .
لم ينجع هذا الدعاء ، بذلك الشقي ، فأجاب بجواب جاهل وقال : ” أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ” ، فتبجح بآلهته التي هي من الحجر والأصنام .
ولام إبراهيم عن رغبته عنها ، وهذا من الجهل المفرط ، والكفر الوخيم ، يتمدح بعبادة الأوثان ويدعو إليها .
” لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ” ؛ أي : عن شتم آلهتي ودعوتي إلى عبادة الله ، ” لَأَرْجُمَنَّكَ ” ؛ أي : قتلًا بالحجارة ، ” وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ” ؛ أي : لا تكلمني زمانًا طويلًا .
فأجابه الخليل ، جواب عباد الرحمن عند خطاب الجاهلين ، ولم يشتمه بل صبر ، ولم يقابل أباه بما يكره ، وقال : ” سَلَامٌ عَلَيْكَ ” ؛ أي : ستسلم من خطابي إياك بالشتم والسب ، وبما تكره .
“سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ” ؛ أي : لا أزال أدعو الله لك بالهداية والمغفرة ، بأن يهديك للإسلام ، الذي به تحصل المغفرة .
فـ ” إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ” ؛ أي : رحيمًا رءوفًا بحالي ، معتنيًا بي .
فلم يزل يستغفر الله له ؛ رجاء أن يهديه الله .
فلما تبين له أنه عدو لله ، وأنه لا يفيد فيه شيئًا ، ترك الاستغفار له ، وتبرأ منه .
وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم ، فمن اتباع ملته ، سلوك طريقه في الدعوة إلى الله بطريق العلم والحكمة ، واللين والسهولة ، والانتقال من رتبة إلى رتبة ، والصبر على ذلك ، وعدم السآمة منه ، والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق ، بالقول والفعل ، ومقابلة ذلك بالصفح والعفو ، بل بالإحسان القولي والفعلي .
فلما أيس من قومه وأبيه قال : ” وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ” ؛ أي : أنتم وأصنامكم ، ” وَأَدْعُو رَبِّي ( وهذا شامل لدعاء العبادة ، ودعاء المسألة ) عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ” ؛ أي : عسى الله أن يسعدني ، بإجابة دعائي ، وقبول أعمالي .
وهذه وظيفة من أيس ممن دعاهم ، فاتبعوا أهواءهم ، فلم تنجع فيهم المواعظ ، فأصروا في طغيانهم يعمهون .
فمن وقع في هذه الحال فعليه ، أن يشتغل بإصلاح نفسه ، ويرجو القبول من ربه ، ويعتزل الشر وأهله .
” فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًا جَعَلْنا نَبِيًّا “.
ولما كان مفارقة الإنسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه ، من أشق شيء على النفس ، لأمور كثيرة معروفة ؛ ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر وكان من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه ، واعتزل إبراهيم قومه ، قال الله في حقه : ” فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا ” من إسحاق ويعقوب ” جَعَلْنَا نَبِيًّا ” فحصل له ولهؤلاء الصالحين المرسلين إلى الناس ، الذين خصهم الله بوحيه ، واختارهم لرسالته واصطفاهم من العالمين .
” وَوَهَبْنَا لَهُمْ ” ؛ أي : لإبراهيم وابنيه ، إسحاق ويعقوب .
” مِنْ رَحْمَتِنَا ” ، وهذا يشمل جميع ما وهب الله لهم من الرحمة ، من العلوم النافعة ، والأعمال الصالحة ، والذرية الكثيرة المنتشرة ، الذين قد كثر فيهم الأنبياء والصالحون .
” وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ” ، وهذا أيضًا من الرحمة التى وهبها لهم ؛ لأن الله وعد كل محسن ، أن ينشر له ثناءً صادقًا بحسب إحسانه ، وهؤلاء من أئمة المحسنين ، فنشر الله الثناء الحسن الصادق ، غير الكاذب ، العالي غير الخفي ، فذكرهم ملء الخافقين ، والثناء عليهم ومحبتهم ، امتلأت بها القلوب ، وفاضت بها الألسنة فصاروا قدوة للمقتدين ، وأئمة للمهتدين .
ولا تزال أذكارهم في سائر العصور ، متجددة ، وذلك فضل الله ، يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .
- كلام لابن الجوزي :
قوله تعالى : ” وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ ” ؛ أي : اذكر لقومك قصته .
قوله تعالى : ” وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ” ؛ أي : لا يدفع عنكَ ضرًّا .
قوله تعالى : ” إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ( بالله والمعرفة ) ما لَمْ يَأْتِكَ “.
قوله تعالى : ” لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ” ؛ أي : لا تُطعه فيما يأمر به من الكفر والمعاصي .. ” وعَصِيًّا ” ؛ أي : عاصيًا ، فهو «فعيل» بمعنى «فاعل».
قوله تعالى : ” إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ ” ، قال مقاتل : في الآخرة ، وقال غيره : في الدنيا ، ” فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ” ؛ أي : قريبًا في عذاب الله ، فجرت المقارنة مجرى الموالاة .
وقيل : إِنما طمع إِبراهيم في إِيمان أبيه ؛ لأنه حين خرج من النار قال له : نِعْمَ الإِله إِلهك يا إِبراهيم ، فحينئذ أقبل يعظه