بالمؤمنين رؤوف رحيم
بالمؤمنين رؤوف رحيم :
لم يجمع الله جلَّ في علاه ، لأحدٍ من خلقه ، اسمين من أسمائه ، ولا للأنبياء ؛ حتى الخليل إبراهيم ، أو الكليم موسى ، أو المسيح عيسى ، أو نوح ، عليهم السلام أجمعين .
بينما جمعهما لحبيبه ومصطفاه ، محمد بن عبدالله ، صلى الله عليه وسلم ؛ فقال تبارك وتعالى :
” لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ “. (التوبة : 128)
ولله در الشاعر القائل :
رَؤوفٌ قـد حَـباه اللهُ وَصـفًا … رحــيـمٌ بـالـخلائقِ أَجْـمَـعِينَا
فَـصَلُّوا يـا كِـرَامُ عـلى شَفيعٍ … عـظيمِ الـقَدرِ خَيرِ المُرسلينا
تَـحُوزوا بـالصلاةِ عليه أَجْرًا … وذِكْـــرًا عِــنـدَ ربِّ الـعـالمينا
وهَمًّا سوف يُفْرَجُ عن قريبٍ … وعَـيشًا في السعادةِ سَالمِينا
- يقول شيخنا الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق ، رحمه الله تعالى ، في [ الوسيط ] :
جمهور المفسرين على أن الخطاب في قوله سبحانه : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ للعرب : فهو كقوله : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ .
أى : لقد جاءكم -يا معشر العرب- رسول كريم «من أنفسكم» أى : جنسكم ، ومن نسبكم ، فهو عربي مثلكم ، فمن الواجب عليكم أن تؤمنوا به وتطيعوه .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ترغيب العرب في الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وفي طاعته وتأييده ، فإن شرفهم قد تم بشرفه ، وعزهم بعزه ، وفخرهم بفخره ، وهم في الوقت نفسه قد شهدوا له في صباه بالصدق والأمانة والعفاف وطهارة النسب ، والأخلاق الحميدة .
- قال القرطبي :
قوله «من أنفسكم» يقتضى مدحًا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب وخالصها ، وفي صحيح مسلم عن وائلة بن الأسقع قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
” إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشًا من كنانة ، واصطفى من قرش بنى هاشم ، واصطفاني من بنى هاشم “.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” إنى من نكاح ولست من سفاح “.
- رأي مختلف :
قال الزَّجَّاج :
إن الخطاب في الآية الكريمة لجميع البشر ، لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم ، ومعنى كونه صلى الله عليه وسلم «من أنفسكم» أنه من جنس .
ويحسم الدكتور طنطاوي القضية بقوله :
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ؛ لأن الآية الكريمة ليست مسوقة لإثبات رسالته صلى الله عليه وسلم وعمومها ، وإنما هي مسوقة لبيان منته وفضله -سبحانه- على العرب ، حيث أرسل خاتم أنبيائه منهم ، فمن الواجب عليهم أن يؤمنوا به ، لأنه ليس غريبًا عنهم ، وإذا لم يؤمنوا به تكون الحجة عليهم ألزم ، والعقوبة لهم أعظم .
وقوله : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ؛ أى : شديد وشاق عليه عنتكم ومشقتكم ، لكونه بعضًا منكم ، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة ، والوقوع في العذاب .
يقال : عزّ عليه الأمر ؛ أي صعب وشق عليه ، والعنت المشقة والتعب ومنه قولهم : أكمة عنوت ، إذا كانت شاقة مهلكة ، والفعل عنت بوزن فرح .
وقوله : حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ؛ أي : حريص على إيمانكم وهدايتكم وعزتكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة .
والحرص على الشيء معناه : شدة الرغبة في الحصول عليه وحفظه .
وقوله : «بالمؤمنين رءوف رحيم» ؛ أي : شديد الرأفة والرحمة بكم -أيها المؤمنون- ، والرأفة عبارة عن السعى في إزالة الضرر ، والرحمة عبارة عن السعي في إيصال النفع ، فهو صلى الله عليه وسلم يسعى بشدة في إيصال الخير والنفع للمؤمنين ، وفي إزالة كل مكروه عنهم .
قال بعضهم : لم يجمع الله -تبارك وتعالى- لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ» ، وقال عن ذاته -سبحانه- إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيم .
- مِنْ أَنْفَسَكُم :
قرأ عبدالله بن قسيط المكي من ” أنفَسكم ” بفتح الفاء من النفاسة ؛ ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة رضي الله عنها ؛ أي جاءكم رسول من أشرفكم وأفضلكم من قولك : شيء نفيس إذا كان مرغوبًا فيه .
- وفي : التحرير والتنوير :
كانت هذه السورة ( التوبة ) سورة شدة وغلظة على المشركين وأهل الكتاب والمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب ، وأمرًا للمؤمنين بالجهاد ، وإنحاء على المقصرين في شأنه .
وتخلل ذلك تنويه بالمتصفين بضد ذلك من المؤمنين الذين هاجروا والذين نصروا واتبعوا الرسول في ساعة العسرة .
فجاءت خاتمة هذه السورة آيتين بتذكيرهم بالمنة ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- والتنويه بصفاته الجامعة للكمال .. ومن أخصها حرصه على هداهم ، ورغبته في إيمانهم ودخولهم في جامعة الإسلام ليكون رؤوفًا رحيمًا بهم ليعلموا أن ما لقيه المعرضون عن الإسلام من الإغلاظ عليهم بالقول والفعل ما هو إلا استصلاح لحالهم .
وهذا من مظاهر الرحمة التي جعلها الله -تعالى- مقارنة لبعثة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بقوله : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ، بحيث جاء في هاتين الآيتين بما شأنه أن يزيل الحرج من قلوب الفرق التي نزلت فيهم آيات الشدة وعوملوا بالغلظة تعقيبًا للشدة بالرفق وللغلظة بالرحمة ، وكذلك عادة القرآن .
فقد انفتح بهاتين الآيتين باب حظيرة الإيمان والتوبة ليدخلها من وفقه الله إليها .
- التحرير والتنوير :
تنفس من عطور الصبح ذكرا … ليشرح يومك الميمون صدرا
وصلِّ على النبي صلاةَ حُبٍّ … يصلي عليك رب الكون عشرا