لغة الضاد

القصيدة العمرية لحافظ إبراهيم

القصيدة العمرية ( حافظ إبراهيم ) :

حَسبُ القَوافي وحَسبي حين أُلْقيها … أَنِّي إلى ساحَةِ الفاروقِ أُهْدِيها
لا هُمَّ، هَبْ لي بيانًا أستَعينُ به … على قضاءِ حُقوقٍ نامَ قاضِيها
قد نازَعَتني نَفسي أن أوَفِّيَها … وليس في طَوقِ مِثلي أنْ يُوَفِّيها
فمُرْ سَرِيَّ المَعاني أنْ يُواتيَني … فيها فإنِّي ضَعيفُ الحالِ واهيها
مَولَى المُغيرَةِ، لا جادَتكَ غاديَة … من رَحمَةِ اللـهِ ما جادَتْ غَواديها
مزَّقتَ منه أديمًا حَشُوه هِمَمٌ … في ذِمّةِ اللـهِ عاليها وماضِيها
طَعَنْتَ خاصِرَةَ الفاروقِ مُنتَقِمًا … من الحَنيفَةِ في أعلى مَجاليها
فأصبَحَتْ دولةُ الإسلامِ حائرةً … تَشكُو الوَجيعةَ لمّا ماتَ آسيها
مَضى وخَلَّفَها كالطَّودِ راسِخَةً … وزانَ بالعَدلِ والتَّقوَى مَغانيها
تَنبُْو المَعاوِلُ عنها وهيَ قائِمَةٌ … والـهادِمُون كثيرٌ في نواحيها
حتى إذا ما تَوَلاّها مُهَدِّمُها … صاحَ الزَّوَالُ بها فاندَكَّ عاليها
واهاً على دَولةٍ بالأمسِ قد مَلأَت … جَوانِبَ الشَّرقِ رَغداً من أياديها
كم ظَلَّلَتْها وحاطَتْها بأجنحةٍ … عن أعينِ الدَّهرِ قد كانت تُواريها
مِنَ العِنايةِ قد رِيشَتْ قَوادِمُها … ومن صَميم التُّقى رِيشَتْ خَوافيها
واللـهِ ما غالَها قِدْمًا وكادَ لـها … واجتَثَّ دَوْحَتَها إِلاّ مَوالِيها
لو أنّها في صَميم العُرب قد بَقِيَتْ … لمّا نَعاها على الأيّام ناعِيها
يا ليتَهُم سَمعُوا ما قالـه عُمَرٌ … والرُّوحُ قد بَلَغَتْ منه تَراقِيها
لا تُكْثِرُوا من مَواليكُم فإنّ لـهم … مَطامِعاً بَسَماتُ الضَّعفِ تُخفيها
رأيتَ في الدِّين آراءً مُوَفَّقَةً … فأنزَلَ اللـهُ قرآنًا يُزَكِّيها
وكنتَ أوّلَ من قَرَّت بصُحبتِه … عينُ الحَنيفةِ واجتازَت أمانِيها
قد كنتَ أعدى أعاديها فصِرتَ لـها … بنعمةِ اللـهِ حِصنًا من أعاديها
خَرَجتَ تَبغي أذاها في محمَّدها … وللحَنيفةِ جَبّارٌ يُواليها
فلم تَكَدْ تَسمَعُ الآياتِ بالِغةً … حتى انكَفَأْتَ تُناوي من يُناويها
سَمِعْتَ سُورَةَ طّه من مُرَتِّلِها … فزلزلت نِيَّةً قد كنتَ تَنويها
وقُلتَ فيها مَقالًا لا يُطاولُه … قَولُ المُحِبِّ الذي قد بات يُطرِيها
ويومَ أسلَمتَ عَزَّ الحَقُّ وارتَفَعتْ … عن كاهِلِ الدِّينِ أثقالٌ يُعانيها
وصاحَ فيه بِلالٌ صَيحَةً خَشَعَتْ … لـها القُلوبُ ولَبَّتْ أمرَ بارِيها
فأنتَ في زَمَن المُختارِ مُنجِدُها … وأنتَ في زَمَنِ الصِّدِّيقِ مُنْجِيها
كم استَراكَ رَسُولُ اللـهِ مُغتَبِطًا … بحِكمَةٍ لكَ عند الرَأْيِ يُلْفيها
ومَوقِفٍ لكَ بعد المصطفى افَتَرقَت … فيه الصَّحابةُ لمّا غابَ هاديها
بايَعتَ فيه أبا بَكرٍ فبايَعَه … على الخِلافَةِ قاصِيها ودانِيها
وأُطفِئَت فِتَنةٌ لولاكَ لاستَعَرَت … بين القَبائِل وانسابَت أفاعيها
باتَ النبيُّ مُسَجّىً في حَظيرَتِه … وأنتَ مُستَعِرُ الأحشاءِ دامِيها
تَهيمُ بين عَجيج الناس في دَهَشٍ … مِن نَبْأَةٍ قد سَرَى في الأرضِ ساريها
تَصيحُ: من قال نَفسُ المصطفى قُبِضَتْ … عَلَوتُ هامَتَه بالسَّيفِ أَبْريها
أنْساكَ ، حُبُّكَ طه أنّه بَشَرٌ … يُجري عليه شُؤُونَ الكَونِ مُجريها
وأنّه وارِدٌ لا بدّ مَوْرِدَه … مِنَ المَنِيَّةِ لا يُعفيه ساقيها
نَسِيتَ في حَقِّ طه آيةً نَزَلَتْ … وقد يُذَكَّرُ بالآياتِ ناسيها
ذَهِلْتَ يومًا فكانت فِتنَةٌ عَمَمٌ … وَثابَ رُشدُكَ فانجابَتْ دَياجِيها
فللسَّقِيفَةِ يومٌ أنتَ صاحِبُه … فيه الخِلافةُ قد شِيدَتْ أواسيها
مَدَّتْ لـها الأَوْسُ كَفًّا كي تَناوَلَها … فمَدَّتْ الخَزْرَجُ الأيدي تُباريها
وظَنَّ كلُّ فَريقٍ أنّ صاحِبَهُم … أوْلى بها وأتى الشّحْنَاءَ آتيها
حتى انَبَريتَ لـهم فارتدّ طامِعُهُم … عنها وأخَّى أبو بَكرٍ أواخيها
وقَولَةٍ لعَليٍّ قالَها عُمَرٌ … أكرِم بسامِعِها أعظِم بمُلقيها!
حَرَقتُ دارَكَ لا أبقي عليكَ بها … إنْ لم تُبايعْ وبنتُ المصطفى فيها
ما كان غيرُ أبي حَفصٍ يَفُوهُ بها … أمامَ فارِسِ عَدْنانٍ وحامِيها
كلاهُما في سَبيلِ الحَقِّ عَزْمَتُه … لا تَنْثَني أو يكونَ الحَقُّ ثانيها
فاذْكُرْهُمَا وتَرَحَّمْ كُلَّما ذَكَرُوا … أعاظِمًا أَلِّهُوا في الكونِ تأليها
كم خِفتَ في اللـه مَضعُوفًا دَعاكَ بهِ … وكم أخَفتَ قويًّا يَنثَني تِيها
وفي حَديثِ فتَى غَسّانَ موعظةٌ … لكلِّ ذي نَغرَةٍ يأبى تَناسيها
فما القَوِيُّ قَوِيًّا رغم عِزَّته … عند الخُصومَةِ والفارُوقُ قاضيها
وما الضَّعيفُ ضعيفًا بعد حُجَّتِه … وإنْ تَخاصَمَ واليها وراعيها
وما أقَلْتَ أبا سُفيانَ حين طَوى … عَنكَ الـهديةَ مُعَتّزًا بمُهديها
لم يُغنِ عنه وقد حاسَبْتَه حَسَبٌ … ولا مُعاويةٌ بالشامِ يَجبيها
قَيَّدْتَ منه جَليلًا شاب مَفرِقُه … في عِزِّةٍ ليس من عِزٍّ يُدانيها
قد نوَّهُوا باسمِه في جاهِلّيتِه … وزادَه سَيِّدُ الكَونَينِ تنويها
في فَتحِ مَكّةَ كانت دارُه حَرَمًا … قد أمَّنَ اللـهُ بعدَ البيتِ غاشِيها
وكلُّ ذلك لم يَشفعَ لدى عُمَرٍ … في هفوةٍ لأبي سُفيانَ يأْتيها
تاللـهِ لو فَعَلَ الخَطّابُ فَعلَتَه … لمَا تَرَخَّصَ فيها أو يُجازيها
فلا الحَسابَةُ في حَقٍّ يُجامِلُها … ولا القَرابةُ في بُطلٍ يُحابيها
وتلكَ قُوّةُ نفسٍ لو أراد بها … شُمَّ الجِبالِ لمَا قَرّت رَواسيها
سَلْ قاهِرَ الفُرسِ والرُّومانِ هل شَفَعَتْ … لـه الفُتوحُ وهل أغنَى تَواليها

غَزَى فأبْلى وخَيْلُ اللـهِ قد عُقِدت … باليُمنِ والنَّصْرِ والبُشْرَى نَواصِيها
يَرمي الأعادي بآراءٍ مُسَدَّدَةٍ … وبالفَوارسِ قد سالَتْ مَذاكيها
ما واقَعَ الرُّومَ إلاّ فَرَّ قارِحُها … ولا رَمَى الفُرسَ إلاّ طاشَ راميها
ولم يَجُزْ بَلدَةً إلا سَمِعْتَ بها … اللـهُ أكبرُ تَدوي في نَواحيها
عِشرُونَ مَوقِعَةً مَرّتْ مُحَجَّلةً … من بعد عَشرٍ بَنانُ الفَتحِ تُحْصيها
وخالدٌ في سَبيلِ اللـهِ مُوقِدُها … وخالدٌ في سَبيلِ اللـه صاليها
أتاهُ أمْرُ أبي حَفصِ فقبَّلَه … كما يُقَبِّلُ آيَ اللـهِ تالِيها
واستَقْبَلَ العَزْلَ في إبّانِ سَطْوَته … ومَجْدِه مُسْتَريحَ النَّفسِ هاديها
فاعجَب لسَيِّدِ مَخُزومٍ وفارِسِها … يومَ النِّزالِ إذا نادَى مُناديها
يَقُودُه حَبَشيٌّ في عِمامَتِه … ولا تُحرَّكُ مَخزُومٌ عَواليها
ألْقَى القِيادَ إلى الجَرّاحِ مُمْتَثِلاً … وعِزّةُ النَّفْسِ لم تُجْرَحْ حَواشيها
وانضَمَّ للجُند يَمشي تحتَ رايَتِه … وبالحياةِ إذا مالَتْ يُفَدِّيها
وما عَرَتْه شَكوكٌ في خَليفَتِه … ولا ارتَضَى إمَرةَ الجَرّاحِ تَمويها
فخالِدٌ كان يَدري أنّ صاحِبَه … قد وَجَه النَّفسَ نحوَ اللـهِ تَوجيها
فما يُعالِجُ من قَولٍ ولا عَمَلٍ … إلاّ أرادَ به للنّاسِ تَرفيها
لذاكَ أوْصَى بأولادٍ لـه عُمَرًا … لمّا دَعاهُ إلى الفِرْدَوسِ داعيها
وما نَهَى عُمَرٌ في يومِ مَصرعِه … نِساءَ مَخزومَ أن تَبكي بَواكيها
وقيل : خالَفتَ يا فاروقُ صاحِبَنا … فيه وقد كان أعطى القَوسَ باريها
فقال: خِفتُ افتِتانِ المُسلمين به … وفِتنةُ النَّفسِ أعيَت مَن يُداويها
هَبوه أخطَأَ في تَأْويلِ مَقصِدِه … وأنّها سَقطَةٌ في عينِ ناعيها
فلن تَعيبَ حَصيفَ الرأيِ زَلّتُه … حتى يَعيبَ سُيوفَ الـهِندِ يَطويها
تاللـهِ لم يَتَّبعْ في ابنِ الوَليد هَوىً … ولا شَفَى غُلَّةً في الصَّدْرِ يَطويها
لكنّه قد رأى رَأيًا فأتبعَه … عَزيمَةً منه لم تُثْلَمْ مَواضيها
لم يَرعَ في طاعَةِ المولى خُؤُولَتَه … ولا رَعى غيرَها فيما يُنافيها
وما أصابَ ابنُه والسَّوْطُ يأخُذُهُ … لَدَيه من رَأْفَةٍ في الحَدِّ يُبديها
إنّ الذي بَرَأَ الفاروقَ نَزَّهَه … عن النَّقائِصِ والأغراضِ تَنْزيها
فذاكَ خُلقٌ مِنَ الفِردَوسِ طينَتُه … اللـهُ أوْدَعَ فيها ما ينَقِّيها
لا الكِبْرُ يَسْكُنُها، لا الظُّلمُ يَصحَبُها … لا الحِقدُ يَعرِفُها، لا الحِرصُ يُغويها
شاطَرتَ داهَيةَ السُّوَاس ثَرَوتَه … ولم تَخَفه بمِصرٍ وهو والِيها
وأنتَ تَعِرفُ عَمرًا في حَواضِرِها … ولستَ تَجهَلُ عَمرًا في بَواديها
لم تُنبِت الأرضُ كابن العاصِ داهيةً … يَرمي الخُطوبَ بَرأيٍ ليسَ يُخطِيها

فلم يُرِغ حِيلَةً فيما أمَرتَ به … وقامَ عَمروٌ إلى الأجمالِ يُزجِيها
ولم تُقِلْ عامِلًا منها وقد كَثُرَتْ … أموالُه وفَشا في الأرضِ فاشيها
وما وَفى ابنُكَ عبدُ اللـهِ أَيْنُقَه … لمّا اطَّلَعْتَ عليها في مَراعيها
يَنها في حِماهُ وهي سارِحَةٌ … مِثلَ القُصور قد اهتَزَّت أعاليها
فقلتَ: ما كان عبدُ اللـه يُشبِعُها … لو لم يكن وَلَدي أو كان يُرويها
قد استعانَ بجاهي في تِجارَتِه … وباتَ باسمِ أبي حَفصٍ يُنَميِّها
رُدّوا النِّياقَ لبيتِ المالِ إنّ لـه … حَقَّ الزِّيادَةِ فيها قَبل شاريها
وهذه خُطّةٌ للـهِ واضِعُها … رَدَّتْ حُقوقًا فأغنَت مُستَميحيها
ما الإشتراكيَّةُ المُنشودُ جانِبُها … بين الورى غيرَ مَبنىً من مَبانيها
فإنْ نكن نحن أهليها ومنبِتَها … فإنّهم عَرَفُوها قبل أهليها
جَنَى الجَمالُ على نَصرٍ فغَرَّبَه … عَنِ المَدينةِ تَبكِيه ويَبكيها
وكم رَمَت قَسماتُ الحُسنِ صاحِبَها … وأتعَبَتْ قَصَبَاتُ السَّبقِ حاويها
وزهرةُ الرَّوضِ لولا حُسنُ رونقِها … لمَا استَطالَتْ عليها كفُّ جانيها
كانت لـه لِمَّةٌ فَينانَةٌ عَجَبٌ … على جَبينٍ خَليق أنْ يُحَلّيها
وكان أنَّى مَشَى مالَتْ عَقَائِلُها … شَوقًا إليه وكادَ الحُسنُ يَسبيها

هَتَفَنَ تحتَ اللّيالي باسمِه شَغَفًا … وللحِسانِ تَمّنٍّ في لَياليها
جَزَزتَ لِمَّتَه لمّا أُتِيتَ به … ففاقَ عاطِلُها في الحُسنِ حاليها
فَصِحْتَ فيه تَحَوَّلْ عن مَدينَتِهِم … فإنّها فِتنَةٌ أخشى تَماديها
وفِتنةُ الحُسنِ إنْ هَبَّتْ نَوافِحُها … كفِتنَةِ الحَربِ إنْ هَبَّتْ سَوافيها
وراعَ صاحبُ كسرى أنْ رأى عُمَرًا … بين الرَّعيّةِ عُطلًا وهو راعيها
وعَهدُه بمُلوكِ الفُرسِ أنّ لـها … سُورًا من الجُندِ والأحراسِ يَحميها
رآه مُستَغرقًا في نَومِه فَرأى … فيه الجَلالَة في أسمَى مَعانيها
فوقَ الثَّرَى تحتَ ظِلِّ الدَّوحِ مُشتَمِلًا … بُبردَةٍ كادَ طُولُ العَهدِ يُبليها
فهانَ في عَيِنه ما كان يُكبِرُه … مِنَ الأكاسِرِ والدّنيا بأيديها
وقال قَوَلَةَ حَقٍّ أصبَحَتْ مَثَلًا … وأصَبَحَ الجيلُ بعدَ الجيلِ يَرويها:
أمِنتَ لمّا أقَمتَ العَدلَ بينهُمُ … فنِمتَ نَومَ قَريرِ العَينِ هانيها
يا رافِعًا رايةَ الشُّورَى وحارِسَها … جَزاكَ رَبُّكَ خَيرًا عن مُحِبِّيها
لم يُلـهِكَ النَّزْعُ عن تأييدِ دَولَتها … وللمَنِيَّةِ آلامٌ تُعانيها
لم أنسَ أمركَ للمِقدادِ يَحمِلُه … إلى الجَماعةِ إنذارًا وتَنبيها
إِنْ ظَلَّ بعد ثَلاثٍ رأْيُها شُعَبًا … فجَرِّدِ السَّيفَ واضرِبْ في هَواديها
فاعجَبْ لقوّةِ نَفسٍ ليسَ يَصرِفُها … طَعمُ المَنِّيةِ مُرًّا عن مَراميها
دَرَى عميدُ بني الشُّورَى بمَوضِعِها … فعاشَ ما عاشَ يَبنيها ويُعليها

وما استَبَدَّ برأْيٍ في حُكومَتِه … إنّ الحُكومَةَ تُغري مُستَبِدِّيها
رأيُ الجّماعةِ لا تَشقَى البِلادُ به … رغم الخِلافِ ورَأْيُ الفَردِ يُشقيها
يا مَن صَدَفتَ عن الدُّنيا وزِينَتها … فلم يَغُرَّكَ من دُنياكَ مُغريها
ماذا رأيتَ بباب الشامِ حين رَأوْا … أنْ يُلبِسُوكَ مِن الأثوابِ زاهيها
ويُرْكِبُوكَ على البِرذَونِ تَقدمُهُ … خَيلٌ مُطَهَّمَةٌ تَحلُو مَرائيها
مَشى فهَملَجَ مُختالًا براكبِه … وفي البَراذِينِ ما تُزهى بعاليها
فصِحتَ: يا قوم، كادَ الزَّهوُ يَقتُلُني … وداخَلَتنِيَ حالٌ لستُ أدْريها
وكادَ يَصبُو إلى دُنياكُمُ عُمَرٌ … ويَرتَضي بَيعَ باقيهِ بفانيها
رُدُّوا رِكابي فلا أبغي به بَدَلا … رُدُّوا ثيابي فحَسبي اليومَ باليها
ومَن رآهُ أمامَ القِدْرِ مُنبَطِحًا … والنارُ تَأْخُذُ منه وهو يُذْكيها
وقد تَخَلَّلَ في أثناءِ لِحَيتِهِ … منها الدُّخانُ وَفُوهُ غابَ في فيها
رأى هُناكَ أميرَ المُؤمنين على … حالٍ تَرُوعُ -لَعَمرُ اللـهِ- رائيها
يَستَقبِلُ النارَ خَوفَ النارِ في غدِهِ … والعَينُ من خَشيَةٍ سالَتْ مَآقيها
إنْ جاعَ في شِدّةٍ قَومٌ شَرِكتَهُم … في الجوعِ أو تَنجلَي عنهم غَواشيها
جُوعُ الخَليفَةِ -والدُّنيا بقَبضَتِه- … في الزُّهدِ مَنزِلَةٌ سبحانَ مُوَليها
فمَن يُباري أبا حَفصٍ وسيرَتَه … أو مَن يُحاولُ للفاروقَ تَشْبيها
يومَ اشتَهَتْ زَوجُه الحَلوى فقال لـها … من أينَ لي ثَمَنُ الحلوى فأشريها
لا تَمتَطي شَهَواتِ النَّفسِ جامِحَةً … فكِسرَةُ الخُبز عن حَلواكِ تَجزيها
وهل يَفي بيتُ مالِ المُسلمينَ بما … تُوحي إليك إذا طاوَعتِ مُوحيها
قالت: لكَ اللـهُ إنِّي لستُ أَرزَؤُه … مَالًا لحاجَةِ نفسٍ كنتُ أبغيها
لِكنْ أُجنِّبُ شيْئًا مِن وَظِيفَتناَ … وفي كُلِّ يْومٍ عَلَى حَالٍ أُسَوِّيهاً
حتى إذا ما مَلَكنا ما يُكافِئُها … شَرَيتُها ثُمّ إنِّي لا أُثَنِّيها
قال: اذهبي واعلَمي إنْ كنتِ جاهِلَةً … أنَّ القَناعةَ تُغني نفسَ كاسيها
وأقبلَت بعدَ خَمسٍ وهي حامِلَةٌ … دُرَيهِماتٍ لتقضي من تَشَهِّيها
فقال: نَبَّهتِ منِّي غافلًا فدَعي … هذي الدَّراهِمَ إذْ لا حَقَّ لي فيها
وَيلي على عُمَرٍ يَرضى بمُوفِيَةٍ … على الكفافِ ويَنهَى مُستَزيديها
ما زادَ عن قُوتنا فالمُسلمونَ به … أوْلى فقُومي لبيتِ المالِ رُدِّيها
كذاكَ أخلاقُه كانت وما عُهِدَتْ … بعد النُّبُوّةِ أخلاقٌ تُحاكيها
في الجاهليّةِ والإِسلامِ هَيبَتُه … تَثْني الخُطوبَ فلا تَعدُو عَواديها
في طَيِّ شِدَّته أسرارٌ مَرحَمَةٍ … للعالَمينَ ولكن ليس يُفْشيها
وبين جَنَبيه في أوفى صَرامتِه … فُؤادُ والدةٍ تَرعى ذَراريها

أغنَتْ عن الصَّارِمِ المصقولِ دِرّتُه … فكم أخافَت غَويِّ النَّفسِ عاتيها
كانت لـه كعصا مُوسى لصاحِبها … لا يَنزِلُ البُطلُ مُجتازًا بِوادِيها
أخافَ حتى الذَّراري في ملاعِبِها … وراعَ حتى الغواني في مَلاهيها
أرَيتَ تلكَ التي للـه قد نَذَرَتْ … أنشودَةً لرسولِ اللـه تُهديها
قالت: نَذَرْتُ لئن عادَ النَّبيُ لنا … من غزوةٍ لَعَلى دُفِّي أُغَنِّيها
ويَمَّمَتْ حَضَرَةَ الـهادي وقد مَلأَتْ … أنوارُ طَلعتِه أرجاءَ ناديها
واستأذَنَت ومَشَت بالدُّفِّ واندَفَعَت … تُشجي بألحانِها ما شاءَ مُشجيها

والمصطفى وأبو بَكرٍ بجانِبه … لا يُنكِرانِ عليها من أغانيها
حتى إذا لاحَ من بُعدٍ لـها عُمَرٌ … خارَت قُواها وكادَ الخَوفُ يُرديها
وخَبَأَتْ دُفَّها في ثَوبِها فَرَقًا … منه ووَدَّتْ لو أنّ الأرضَ تَطويها
قد كانَ حِلمُ رسولِ اللـهِ يُؤْنِسُها … فجاءَ بَطشُ أبي حَفصٍ يُخَشِّيها
فقالَ مَهِبطُ وَحيِ اللـهِ مُبتَسِمًا … وفي ابتِسامَتِهِ مَعنىً يُواسيها
قد فَرَّ شيطانُها، لمّا رأى عُمَرًا … إنّ الشياطينَ تَخشى بأسَ مُخزيها
وفِتيَةٍ وَلِعُوا بالرَّاحِ فانَتَبَذُوا … الـهم مَكانًا وجَدُّوا في تَعاطِيها
ظَهَرتَ حائِطَهُم لمّا عَلِمتَ بهم … والليلُ مُعتَكِرُ الأرجاءِ ساجيها
حتى تَبَيَّنْتَهُم والخَمرُ قد أخَذَت … تَعلو ذُؤابَةَ ساقيها وحاسيها
سَفَّهتَ آراءَهُم فيها فما لَبِثوا … أن أوسَعُوكَ على ماجِئتَ تَسفيها
ورُمتَ تَفقيهَهُم في دينِيهِم فإذا … بالشَّربِ قد بَرَعُوا الفاروقَ تَفقيها
قالوا: مَكانَكَ قد جِئنا بواحِدَةٍ … وجِئتَنا بثَلاثٍ لا تُباليها
فأْتِ البيوتَ من الأبوابِ يا عُمَرٌ … فقد يُزَنُّ من الحِيطانِ آتيها
واستأْذِن الناسَ أنْ تَغشى بُيوتَهُمُ … ولا تُلِمّ بدارٍ أو تَحَيِّيها
ولا تَجَسَّس فهذي الآيُ قد نَزَلَتْ … بالنَّهْي عنه فلم تَذكر نَواهيها
فعُدتَ عنهم وقد أكبَرتَ حُجَّتَهُم … لمّا رَأيتَ كِتابَ اللـهِ يُمليها
وما أنِفتَ وإنْ كانوا على حَرَجٍ … من أن يَحُجَّكَ بالآياتِ عاصيها
وسَرحَةٍ في سماءِ السَّرحِ قد رَفَعَت … ببيعَةِ المُصطَفى من رأسِها تيها
أزَلتَها حين غَالوْا في الطَّوافِ بها … وكان تَطوافُهُم للدِّينِ تَشويها
هذي مناقِبُه في عهدِ دولتِهِ … للشّاهِدِينَ وللأعقابِ أحكيها
في كلِّ واحدةٍ منهنّ نابِلَةٌ … من الطبائعِ تَغذو نفسَ واعيها
لَعَلَّ في أمّةِ الإسلامِ نابتَةً … تَجلُو لحاضِرِها مِرآةَ ماضيها
حتى تَرَى بعضَ ما شادَت أوائِلُها … من الصُّروحِ وما عاناهُ بانيها
وحَسبُها أن ترى ما كانَ من عُمَرٍ … حتى يُنَبِّهَ منها عينَ غافيها

ندعوكم لقراءة : قصيدة قم للمعلم لأحمد شوقي

  • أما الشاعر فهو حافظ إبراهيم :

– شاعر مصري من الرواد الأعلام ، وأحد قادة مدرسة الإحياء في نهاية القرن العشرين ، وُلد في ديروط بأسيوط عام 1871م أو 1872م ، فقد أباه طفلًا ، فكفله خاله ، التحق بالشرطة ، وظل فيها لفترة ، ثم سافر إلى السودان ، ثم أُحيل إلى الاستيداع ، وفي هذه الفترة كان قد ذاع صيته كشاعر شاب مبتدئ ، ومع مطلع القرن صار من أشهر أعلام الشعر ، و مع حادثة دنشواي 1906م صار حافظ المتحدث الرسمي باسم شعب مصر الحامل لآلامه وأماله .
– عُيِّن حافظ في دار الكتب حتى صار مديرًا لها ، ونال البكوية عام 1912م .. صار حافظ من أعلام العروبة ، ويُعد أحد أشهر أعلام الشعر في تاريخه .
– رحل حافظ في 22 يولية 1932م .
– جُمع شعره بعد رحيله في ( ديوان حافظ ) من جزأين .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى