العجب العجاب

الغراب

الغراب :

قال الرب الجليل ، في محكم التنزيل :

” وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ “. (المائدة : 27-31)

لماذا اختار الله تبارك وتعالى الغراب دون كل الطيور والمخلوقات ليُعلم الإنسان الدفن في قصة قابيل وهابيل ؟

أثبتت الدراسات العلمية أن الغراب هو أذكى الطيور وأمكرها على الإطلاق ، ويعلل ذلك بأن الغراب يملك أكبر حجم لنصفي دماغ بالنسبة إلى حجم الجسم في كل الطيور المعروفة .

ومن بين المعلومات التي أثبتتها دراسات سلوك عالم الحيوان : ( محاكم الغربان ) ، وفيها تحاكم الجماعة أي فرد يخرج على نظامها حسب قوانين العدالة الفطرية التي وضعها الله سبحانه وتعالى لها ، ولكل جريمة عند جماعة الغربان عقوبتها الخاصة بها .

أولًا : جريمة اغتصاب طعام الأفراخ الصغار :

العقوبة تقضي بأن تقوم جماعة من الغربان بنتف ريش الغراب المعتدي حتى يصبح عاجزًا عن الطيران كالأفراخ الصغيرة قبل اكتمال نموها !

ثانيًا : جريمة اغتصاب العش أو هدمه :

تكتفي محكمة الغربان بإلزام المعتدي ببناء عش جديد لصاحب العش المُعتدَى عليه .

ثالثًا : جريمة الاعتداء على أنثى غراب آخر :

تقضي جماعة الغربان بقتل المعتدي ضربًا بمناقيرها حتى الموت !
وتنعقد المحكمة عادة في حقل من الحقول الزراعية أو في أرض واسعة تتجمع فيه هيئة المحكمة في الوقت المحدد ، ويجلب الغراب المتهم تحت حراسة مشددة ، وتبدأ محاكمته فينكس رأسه ، ويخفض جناحيه ، ويُمسِك عن النعيق اعترافًا بذنبه ، فإذا صدر الحكم بالإعدام ، قفزت جماعة من الغربان على المذنب توسعه تمزيقًا بمناقيرها الحادة حتى يموت ، وحينئذ يحمله أحد الغربان بمنقاره ليحفر له قبرًا يتواءم مع حجم جسده ، يوضع فيه جسد الغراب القتيل ثم يهيل عليه التراب احترامًا لحرمة الموت .

وهكذا تقيم الغربان العدل الإلهى في الأرض أفضل مما يقيمه كثير من بني البشر .

– دفن الغراب لأخيه :

من خلال الكتاب الرائع المفيد [ تحرير المعنى السديد ، وتنوير العقل الجديد ، من تفسير الكتاب المجيد ] للعالم التونسي محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى ، يقول في تفسير الآية ( 31 ) من سورة المائدة ، والمتعلقة بدفن الغراب بالذات لأخيه ، يقول الشيخ التونسي الجليل :

{ البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان ، أي فألْهم الله غرابًا ينزل بحيث يراه قابيل .

وكأنّ اختيار الغراب لهذا العمل إمّا لأنّ الدفن حيلة في الغِربان من قبلُ ، وإمّا لأنّ الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس .. ولعلّ هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب ، فقالوا : غُراب البين .

والضمير المستتر في « يُريَه » إن كان عائدًا إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان ، وإن كان عائدًا إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع ، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز ، لأنّه سبب الرؤية فكأنَّه مُرِيءٌ .

و { كيف } يجوز أن تكون مجرّدة عن الاستفهام مرادًا منها الكيفية ، أو للاستفهام ، والمعنى : ليريه جواب كيف يُواري .

وَالسَّوْأة : مَا تَسُوء رؤيتُه ، وَهِي هنا تغيّر رائحة القتيل وتقطّع جسمه .

وكلمة { يَا ويلتا } من صيّغ الاستغاثة المستعملة في التعجّب ، وأصله يا لَوَيْلَتِي ، فعوّضت الألف عن لام الاستغاثة نحو قولهم : يا عَجَبًا ، ويجوز أن يجعل الألف عوضًا عن ياء المتكلم ، وهي لغة ، ويكون النّداء مجازًا بتنزيل الويلة منزلة ما يُنَادَى ، كقوله : { يَا حسرتى على ما فرّطتُ في جنب الله } [الزمر : 56] .. والاستفهام في { أعجزت } إنكاري .

وهذا المشهد العظيم هو مشهد أوّل حضارة في البشر ، وهي من قبيل طلب سَتر المشاهد المكروهة .

وهو أيضًا مشهد أوّلِ علمٍ اكتسبه البشر بالتّقليد وبالتَّجربة ، وهو أيضًا مشهد أوّل مظاهر تَلقّي البشر معارفه من عوالم أضعفَ منه كما تَشَبَّه النَّاس بالحيوان في الزينة ، فلبسوا الجُلُود الحسنة الملوّنة وتكلّلوا بالريش المُلوّن وبالزهور والحجارة الكريمة ، فكم في هذه الآية من عبرة للتَّاريخ والدّين والخُلُق .

{ فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } .

القول فيه كالقول في { فأصبح من الخاسرين } [المائدة : 30] .. ومعنى { من النادمين } أصبح نادمًا أشدّ ندامة ، لأنّ { من النادمين } أدلّ على تمكّن الندامة من نفسه ، من أن يقال « نادمًا ».

والندم أسف الفاعل على فعل صدر منه ؛ لم يتفطّن لما فيه عليه من مضرّة قال تعالى : { أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } [الحجرات : 6] ، أي ندم على ما اقترف من قتل أخيه إذْ رأى الغراب يحتفل بإكرام أخيه الميّت ورأى نفسه يجترىء على قتل أخيه ، وما إسراعه إلى تقليد الغراب في دفن أخيه إلاّ مبدأ النّدامة وحُبِّ الكرامة لأخيه .

ويحتمل أن هذا النّدم لم يكن ناشئًا عن خوف عذاب الله ولا قصد توبة ، فلذلك لم ينفعه. فجاء في الصّحيح : ” ما مِن نفس تُقْتَل ظُلمًا إلاّ كان على ابنِ آدم الأوّل كِفْل من دمها ذلك لأنَّه أوّل من سَنّ القتل ” ، ويحتمل أن يكون دليلًا لمن قالوا : إنّ القاتل لا تقبل توبته وهو مروي عن ابن عبّاس ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنًا متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها } الآية من سورة النّساء (93).

ندعوكم لقراءة : طائر الطنان

– معلومات عجيبة عن الغراب :

هو الطائر الوحيد الذي يستطيع استخدام الأدوات مثل الأغصان والحجارة للحصول على الطعام .

وقد أكتشف الباحثون أن طائر الغراب ذكي جدًّا ، ويستطيع التعرف علي وجوه البشر ، ليس ذلك فقط بل يستطيع تصنيفهم إلي بشر جيدين ، وبشر سيئين !

قام العلماء بدراسات عديدة حول سلوك الغراب فاكتشفوا أن الغُراب يعيش طوال حياته برفقة زوجة واحدة ولا يخونها ، وإذا اقترب ذكر آخر غريب من زوجة الغراب فتقوم هي بضربه بمنقارها حتي يبتعد عنها ويتركها رغم أن الغربان تعيش وتتنقل أحيانًا في أسراب .

الغراب هو الطائر الوحيد الذي لا يخاف من الطيور الجارحة مثل الصقور والنسور والبوم ، بل إن الغراب يقترب من النسر حين يكون النسر يأكل طعامه. فتتجمع الغربان بالقرب منه قليلًا ، ثم تبدأ في الهجوم عليه ومطاردته وازعاجه ، فتطير الغربان وتنقض عليه طائرة فيضطر النسر إلى خفض رأسه حتي لا يصدمه الغراب بجناحه أو بذيله .

وبعد عدة مرات من تلك المناورة والإزعاج يمل النسر ويطير هاربًا تاركًا الباقي من طعامه فتأكله الغربان .

ومن المعلومات العجيبة أيضًا عن الغراب أنه طائر يعتني بصغاره جيدًا في العش وبحماس كبير ويجلب لهم المأكل بانتظام .

وإذا حام أحد النسور أو الصقور بالقرب من العش ، تنطلق الغربان في مطاردة الصقر حتى يختفي من المنطقة كلها ، ولا تهدأ حتى يبتعد الخطر عن الصغار .

يخرج فرخ الغراب من البيضة بلون أبيض ناصع ثم يتحول تدريجيًا فيما بعد إلى الريش الأسود .

– الغراب آكل الجيف والمؤذي :

جاء الشرع بالأمر بقتله لا بتربيته ، كما في حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ” خَمْسٌ فَوَاسِقُ ، يُقْتَلْنَ فِي الحَرَمِ : الفَأْرَةُ ، وَالعَقْرَبُ ، وَالحُدَيَّا ، وَالغُرَابُ ، وَالكَلْبُ العَقُورُ “.
( رواه البخاري : 3314 ، ومسلم : 1198 ).

قال ابن الأثير رحمه الله تعالى :

{ أصل الفسوق : الخروج عن الاستقامة ، والجور ، وبه سُمِّي العاصي فاسقًا ، وإنما سميت هذه الحيوانات فواسق ، على الاستعارة لخبثهن }.

وقال بدر الدين العيني رحمه الله تعالى :

{ وسميت هذه الخمس فواسق لخروجها عن الحرمة التي لغيرهن ، وأن قتلهن للمحرم وفي الحرم مباح ، فالغراب ينقر ظهر البعير وينزع عينه إذا كان مسيرًا ، ويختلس أطعمة الناس ، والحدأة كذلك تختلس اللحم والفراريج ، والعقرب تلدغ وتؤلم ، والفأرة تسرق الأطعمة وتفسدها وتقرض الثياب وتأخذ الفتيلة من السراج وتضرم بها البيت ، والكلب العقور يجرح الناس }. (عمدة القاري : 10/ 183)

وما دام قد جاء الأمر بقتل هذه الخمس ، فيلزم منه النهي عن الاحتفاظ بها وتربيتها .

غراب الزرع : غراب الزرع الذي لا يؤذي ولا يأكل الخبائث ، فهذا قد أجيز أكله ، فلا يدخل في جنس الغراب الذي أمرنا بقتله .

قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
{ وقد اتفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب من ذلك ، ويُقال له غراب الزرع ، ويقال له الزاغ ، وأفتوا بجواز أكله… }.

وقال صاحب الهداية :
{ المراد بالغراب في الحديث الغداف والأبقع لأنهما يأكلان الجيف ، وأما غراب الزرع فلا }.
وكذا استثناه ابن قدامة وما أظن فيه خلافًا . (فتح الباري : 4/ 38)

وما جاز أكله وحل لحمه جازت تربيته .

هذا ؛ إن أمكنه التمييز بين غراب الزرع المذكور ، والغراب المأمور بقتله ؛ وإلا ، لزمه أن يجتنب الغراب كله ، فلا يقتنيه ، ولا يأكله .

زر الذهاب إلى الأعلى