الذكي الألمعي

كم من همم رفعت أصحابها إلى أعلى القمم ، وكم من أناس علت بهم وازدانت أمم ، وكم من سير فجرت النور في سواد الظلم ، وألقت السمع في قلب الصمم ؛ فارتقى بها كل من علم ومن فهم .

وإن من أصحاب هذه الهمم : الذكي الألمعي .

يُضرَب به المثل في الذكاء ، أكب على العلم ونهل منه ما شاء ، وفي البصرة تولى أمر القضاء ، فوفقه رب الأرض والسماء .

وهو يُعد من التابعين ، الراكعين الساجدين ، الورعين المخبتين .

وُلِد سنة 46 للهجرة في منطقة اليمامة في نجد ، وانتقل مع أسرته إلى البصرة ، وبها نشأ وتعلَّم ، وتردَّد على دمشق في يفاعته ، وأخذ عمن أدركهم من بقايا الصحابة الكرام وجِلَّة التابعين.

ظهرت عليه أماراتُ الذكاء منذ نعومة أظفاره ، وأكبَّ هذا الفتى على العلم ، ونهل منه ما شاء اللهُ أن ينهل ، حتى بلغ منه مبلغًا جعل الشيوخَ ، يخضعون له ، ويأتمُّون به ، ويتتلمذون على يديه على الرغم من صغر سنه ؛ فالعالِم شيخٌ ولو كان حدَثًا ، والجاهل حدثٌ ولو كان شيخًا.

– زار عبدالملك بن مروان البصرة قبل أنْ يَليَ الخلافة ، فرآه وكان يومئذٍ فتًى يافعًا ، لم ينبت شاربُه بعد ، ورأى خلفه أربعةً من القُرَّاء من ذوي اللحى بطيالستهم الخضر ، وهو يتقدَّمهم ، فقال عبد الملك : أُفٍّ لأصحاب هذه اللحى ، أمَا فيهم شيخٌ يتقدَّمهم ، فقدَّموا هذا الغلام ،  فالتفت إليه ، وقال : يا غلام كم سنُّك ؟ -أي ازدراءً له- فقال : أيها الأمير سني -أطال بقاءَ الأمير- كسنِّ أسامة بن زيد حين ولاَّه رسولُ الله جيشًا فيهم أبو بكر وعمر ، فقال له عبد الملك : تقدَّم يا فتى تقدَّم -أي علمُك قدَّمك- بارك الله فيك .

ذكاؤه وسعة حيلته :

شاعت أخبارُ ذكائه وذاعت وصار الناسُ يأتونه من كل حدب وصوب ، ويلقون بين يديه ما يعترضهم من مشكلات في العلم والدين .

– لما ولِيَ القضاءَ ، جاءه رجلان يتقاضيان عنده ، فادَّعى أحدُهما أنه أودع عند صاحبه مالًا ، فلما طلبه منه ، جَحَدَه، فسأل القاضي الرجلَ المُدَّعَى عليه عن أمر الوديعة فأنكرها ، وقال : إن كانت لصاحبي بيِّنة فليأتِ بها ، وإلا فليس له عليَّ إلا اليمين ، لا يوجد بيِّنة ، فلما خاف القاضي الذكي الألمعي أن يأكل الرجلُ المالَ بيمينه ، التفت إلى المودِع ، وقال له : في أيِّ مكان أودعته المالَ ؟ أي أعطيته ، قال : في مكان كذا ، قال : وماذا يوجد في ذلك المكان ؟ قال : شجرة كبيرة جلسنا تحتها ، وتناولنا الطعام معًا في ظلِّها ، ولما هممنا بالانصراف دفعتُ إليه المالَ ، فقال له القاضي : انطلِق إلى المكان الذي فيه الشجرة فلعلَّك إذا أتيتها ذكَّرتك أين وضعت مالك ، ونبَّهَتْك إلى ما فعلته به ، فجعل المدَّعي يذهب إلى الشجرة ، وأوهمَ المتَّهم أنه بريء ، اذهب أيها الرجل إلى الشجرة فلعلك نسيت المالَ هناك ، هذا بريء ، قال : ثم عُد إليَّ لتخبرني بما رأيت ، فانطلق الرجل إلى المكان ، وقال القاضي للمدَّعى عليه : اجلس إلى أن يجيء صاحبُك ، فجلس ، ثم التفت القاضي إلى من عنده من المتقاضين ، وطفـق يقضي بينهم ، وهو يرقب الرجل بطرفٍ خفيٍّ ، حتى إذا رآه قد سكن وارتاحت نفسُه وكأنه صار بريئًا واطمأن ، التفت إليه وسأله على عجل : أتقدِّر أن صاحبك قد بلغ الموضع الذي أعطاك فيه المال ؟ هل تقدِّر أنه وصل إليه ؟ قال له : لا إنه بعيد من هنا ، فقال له القاضي الذكي الألمعي : يا عدوَّ الله ، تجحد المالَ ، وتعرف المكان الذي أخذته فيه !!

تركه ينسى ، وتركه يطمئن ، وسأله فجأة : صاحبك وصل إلى الشجرة في تقديرك إلى المكان الذي أخذت فيه المالَ ؟ هل وصل إليه صاحبُك ؟ لا المكان بعيد ، لا يزال في الطريق ، واللهِ إنك لخائن ، فبُهِت الرجل ، وأقرَّ بخيانته ، فحبسه حتى جاء صاحبُه ، وأمره بردِّ وديعته إليه .

– ومن أخبار فطنته وذكائه أيضًا أنه كان في الكوفة رجل يُظهر للناس الصلاح ، ويُبدي لهم الورع والتقى ، حتى كثر الثناء عليه ، واتخذه بعض الناس أمينًا لهم يأتمنونه على مالهم إذا سافروا ، ويجعلونه وصيًّا على أولادهم إذا أحسوا بدنو الأجل . فأتاه رجل واستودعه مالًا ، ولما احتاج الرجل ماله طلبه منه فأنكره . فمضى إلى الذكي الألمعي ، وشكا إليه الرجل ، فقال للمشتكي : أَعَلِمَ صاحبك أنك تريد أن تأتيني ؟ قال : كلا ، فقال له : انصرف وعُد إليّ غدًا ، ثم أرسل القاضي إلى الرجل المؤتمن ، وقال له : لقد اجتمع لدي مال كثير لأيتام لا كافل لهم ، وقد رأيت أن أُودعه لديك ، وأن أجعلك وصيًّا عليهم ، فهل منزلك حصين ووقاك متسع ؟ فقال : نعم أيها القاضي ، فقال : تعال إليَّ بعد غدٍ ، وأعِدّ موضعًا للمال ، وأحضر معك حمالين يحملونه ، وفي اليوم التالي جاء الرجل المشتكي ، فقال له القاضي : انطلق إلى صاحبك واطلب منه المال ، فإن أنكره فقل له : أشكوك إلى القاضي .

فأتاه الرجل فطلب منه ماله ، فامتنع عن إعطائه له وجحده . فقال له : إذن أشكوك إلى القاضي . فلما سمع ذلك منه دفع إليه المال ، وطيَّب خاطره . فرجع الرجل إلى القاضي وقال : لقد أعطاني صاحبي حقي وجزاك الله خيرًا . ثم جاء الرجل المؤتمن إلى القاضي في موعده ومعه الحمالون ، فزجره وأشهره وقال له : بئس الرجل أنت يا عدو الله ، لقد جعلت الدِّين مصيدة للدنيا .

أدعوكم لقراءة : الشيخان المحدثان

– ورُوِي أن دهقانًا أتى مجلسه ، فقال : ( يا أبا وائلة ، ما تقول في المسكِر؟ قال: حرام ، قال : ما وجهُ حرمته ؟ أقنعني ، وهو لا يزيد عن كونه ثمرًا وماءً ، غُلِيا على النار فصار خمرًا ، وكل ذلك مباح لا شيءَ فيه ، فلماذا هو حرام ؟ فقال إياسُ : أفرغتَ من قولك يا دهقانُ ، أم بقيَ لديك ما تقوله ؟ قال : بل فرغتُ ، قال : لو أخذتُ كفًّا من ماء وضربتُك به ، أكان يوجعك ؟ قال : لا ، قال : لو أخذتُ كفًّا من تراب وضربتُك به ، أكان يوجعك ؟ قال : لا ، قال : لو أخذتُ كفًّا من تِبنْ فضربتك به ، أكان يوجعك ؟ قال : لا ، قال : لو أخذت الترابَ ، ثم طرحتُ عليه تبنًا ، وصببتُ فوقه الماءَ ، ثم مزجتهما مزجًا ، ثم جعلتُ الكتلة في الشمس حتى يبست ، ثم ضَرَبتُكَ به ، أكان يوجعك ؟ قال : وقد تقتلني به ، قال : هكذا شأنُ الخمر ، فهو حينما جُمِعَت أجزاؤه خُمِّر فأصبح حرامًا ، كما أن الماء والتراب والتبن لو ضربتك به لا تُؤذى ، أما إذا جمعتُ هذه العناصر الثلاثة ، ويبَّستها في الشمس ، فأصبحت كتلةً قاسية ، ورميتُك به ، قال : قد تقتلني ، قال : هكذا الخمر ).

– وفي الكشكول لبهاء الدين العاملي : قيل له : لا عيب فيك ، إلا أنك تعجل في القضاء ، من غير تروٍ فيما تحكم به .

فرفع الذكي الألمعي كفه ، وقال : كم أصبعًا في كفي ؟ فقالوا خمسة ، فقال : عجلتم ، وهلا قلتم : واحد ، اثنين ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ؟ فقالوا : لا نعدُّ ما عرفنا ، فقال : وأنا لا أؤخر ما تبين لي الحكم فيه .

– وفي كتابي الأذكياء والكشكول ، جاء فيهما أنه دخل على الذكي الألمعي ثلاث نسوة ، فقال : أما واحدة فمرضع ! والثانية بكر ! والثالثة ثيب ! فقيل له : بم علمت ؟ قال : أما المرضع ، فإنها لمّا قعدت أمسكت ثديها بيدها ، أما البكر ، فلما دخلت لم تلتفت إلى أحد ، وأما الثيب ، فلما دخلت رمقت بعينها يمينًا وشمالًا .

( ياله من ذكيٍّ ألمعي ).

– مرَّ ليلةً بماء ، فقال : أسمع صوت كلب غريب ! فقيل له : كيف عرفت أنه غريب ؟! قال : بخضوع صوته ، وشدة نباح الآخرين ! فسألوا ، فإذا كلبٌ غريب ، والكلاب تنبحه !

– حج صاحبنا الذكي الألمعي مرة ، فسمع نباح كلب ، فقال : هذا كلبٌ مربوط ! ثم سمع نباحه ، قال : قد أُرسل ، فانتهوا إلى الماء ، فسألوهم ، فكان كما قال ! فقيل له : من أين علمت أنه موثق وأنه أُطلق ؟! قال : كان نباحه وهو موثق يُسمع من مكان واحد ، ثم سمعته يقرب مرة ويبعد أخرى !

– قال له أبوه ذات يوم : إن الناس يلدون أبناءً ، وولدت أنا أبًا !!

( لقد كان أريبًا لبيبًا حبيبًا قريبًا ).

وفاته :

 بلغ الذكي الألمعي السادسة والسبعين من عمره ، ورأى نفسَه وأباه في المنام راكبين على فرسين ، فجريا معًا ، فلم يسبق أباه ، ولم يسبقه أبوه ، وكان والدُه قد مات عن ستٍّ وسبعين سنة . وفي ذات ليلة ، أوى إياسٌ إلى فراشه ، وقال لأهله : أتدرون أيَّةُ ليلة هذه ؟ قالوا : كلا ، قال : في هذه الليلة استكمل أبي عمرَه ، فلما أصبحوا وجدوه ميِّتًا .


إنه الذكي الألمعي : إياس بن معاوية المزني .

Exit mobile version