قال الله تعالى في كتابه العزيز عن الثلاثة الذين خلفوا :
” وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ “. (التوبة : 118)
الثلاثة الذين خلفوا هم ثلاثة من الصحابة الكرام ، ليسوا مطلقًا من اللئام ، كأمثال المنافقين الأقزام ، وهذا الثلاثي الصادق هم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومُرَارة بن الربيع ، وجميعهم من الأنصار ، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وكانوا بلا عذرٍ على الإطلاق ، ولكنهم عقدوا العزم على الصدق ، خلافًا للمنافقين الذين أتوا بالحجج الباطلة ؛ فأظهر الله نفاقهم لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا بضعًا وثمانين ، أما هؤلاء الصادقون فقد علم الله صدق نياتهم ؛ فوفقهم إلى ماأقدموا عليه من صدق وندم وتوبة ؛ فتاب عليهم ؛ إنه هو التواب الرحيم .
- وهذه قصة ( الثلاثة الذين خلفوا ) باختصار :
كانت غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة ، وكانت ضد الروم ، والمعلوم أن أصحاب العقيدة الصحيحة لا ينكصون أمام الظروف الصعبة التي اكتنفت إعداد هذا الجيش والذي سُمي “جيش العسرة” ، وخرج المسلمون في تعبئة لم يخرجوا في مثلها ، وكان لـ “عثمان بن عفان” رضي الله عنه دورٌ كبيرٌ في تجهيزه .
وكان على النقيض من أهل الريبة الذين يلتمسون للفرار الأعذار وتقعد بهم كراهيتهم للإسلام عن مد أي عون له، وكان منهم : “الجد بن قيس” ؛ حيث قال : يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني ؟ إني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ؛ يقصد نساء الروم ألا أصبر ، فأعرض عنه النبي صلي الله عليه وسلم وفيه نزلت الآية : ” وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ “. (التوبة : 49)
وبعد أن عاد النبي صلي الله عليه وسلم من الغزوة صلى بالمسجد ركعتين ، ثم جلس للناس ، فجاءه المخلفون فبدأوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا ؛ فَقَبِلَ منهم رسول الله علانيتهم ، وبايعهم ، واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله .
ثم دخل ” كعب بن مالك ” فلما سَلَّم عليه ، تبسم تبسُم المُغْضَب ، ثم قال له : ” تعال “.. قال : فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه ، فقال لي : ” ما خَلَّفَك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ “
فقلت : بلى والله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا ، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أُعطيتُ جدلًا ولكني والله لقد علمتُ إن حدثتك اليوم حديث كذِب ترضى به علي ، ليوشكنّ الله أن يُسخطك عليّ ، ولئن حدثتك حديث صِدق تجد عليَّ فيه ، وإنّي لأرجو فيه عفو الله عنيّ ، والله ما كان لي من عذر ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منيّ حين تخلفت عنك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك “.. فقمت .
وصار رجال من بني سلمة ، فاتبعوني يؤنبونني ، فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلي رسول الله بما اعتذر إليه المخلّفون ، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك .
قال : فوالله مازالوا يؤنبونني ، حتى أردتُ أن أرجع فأُكذّب نفسي ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد ؟
قالوا نعم رجلان … قالا مثل ما قلت ، فقيل لهما مثل الذي قيل لك ، فقلت من هما ؟
قالوا : ” مرارة بن الربيع العامري ، وهلال بن أُمية الوافقي ” ، فذكروا رجلين صالحين شهدا بدرًا ، وفيهما أسوة .
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس وتغيرّوا لنا حتى تنكرت لي الأرض ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة .
فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أجلدهم فأخرج أشهدُ الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله فأُسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي : هل حَرّك شفتيه برد السلام أم لا ، حتى إذا طال عليَّ ذلك من جفوة المسلمين ، مشيتُ حتى تسورتُ جدار حائط أبي قتادة -وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ- فسلمتُ عليه فوالله مارد السلام .. فقلت يا أبا قتادة : أنشدك الله هل تعلم أني أحب الناس لله ورسوله ؟ فسكت ثم كررت عليه مرتين فقال : الله ورسوله أعلم . ففاضت عيناي بالدمع وتوليت .
ثم جاء رجل من الشام يحمل لي رسالة من ” ملك غسان ” فإذا فيها :
{ أما بعد .. بلغني أن صاحبك قد جافاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسيك } ، فقلت -لما قرأتها- : وهذا أيضًا من البلاء .
حتى إذا مضت أربعون ليلة إذا رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال : إن رسول الله يأمرُكَ أن تعتزل امرأتك ، فقلت : أُطلقها أم ماذا ؟ قال : لا ولكن اعتزلها ، ولا تقربها ، فقلت لامرأتي : ألحقي بأهلك حتى يقضي الله في هذا الشأن ، وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك .
- بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين خلفوا :
ولبثت بعد ذلك عشر ليال ، فلما صليت الفجر ، وكنت على سطح بيت من بيوتنا أذكر الله تعالى ، وقد ضاقت علي نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحُبت ، سمعت صوتًا صارخًا :
يا كعب بن مالك ، أبشر ، فخررت ساجدًا ، وعرفتُ أنه جاء الفرج من الله .
فأسرعت إلى المسجد ، فلما سلمت على الرسول قال : وهو يبرُق وجهه من السرور : ” أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك “.
قال : قلت أهو من عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : ” لا .. بل من عند الله “.
قال تعالى : ” لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار ” إلى قوله تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ “. (التوبة : 117-119)