سيرة الحبيب ﷺ

التخطيط للهجرة إلى الحبشة

التخطيط للهجرة إلى الحبشة :

( ٣٦ ) الحلقة السادسة والثلاثون من سيرة الحبيب ﷺ :

فلنبدأ بالصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الكِرام .

فكَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسيلة جديدة لمجابهة طُغاة مكة ، وهي الهجرة من أرض مكة إلى أرض أخرى جديدة ليس فيها تعذيب أو إيذاء ، ليس فيها استئصال للدعوة .

وكان السبب الرئيسي للهجرة هو حماية الدعوة ونشر الإسلام وحفظ أرواح المؤمنين .

واختار النبي صلى الله عليه وسلم أرض الحبشة .

لكن لماذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبشة بالذات ليهاجر إليها المسلمون ؟!

لأن قبائل العرب من حولهم جميعها مشركة ، وهي وإن لم تعلن العداء للمسلمين إلا أنها تُعظِّم قريشًا ، وإذا طارد القرشيون المسلمين في هذه البلاد ، فلن يترددوا في تسليم المسلمين إليهم .

وعلى الرغم من أن الحبشة بعيدة عن مكة فيصعب الاتصال بينهما ، وبالرغم من اختلاف اللغة والعادات والطبائع ، إلا أن الحبشة كانت تتمتع بعدة مزايا مهمة منها :

أولًا : عدل حاكم الحبشة .

ثانيًا : أهل الحبشة هم أهل كتاب مثل المسلمون .
فقال تعالى : ” لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ “.
وكان معظم النصارى في أرض الحبشة لهم اعتقادات منحرفة ؛ نتيجة التحريف في التوراة والإنجيل ، لكن كان بعضهم ما يزال صحيح الاعتقاد ، وكان النجاشي رحمه الله ( ملك الحبشة ) من هؤلاء ، وقد أفاد هذا كثيرًا كما سنرى في التعامل مع المهاجرين المسلمين .

ثالثًا : الحبشة بعيدة عن مكة ، وذلك يُوَفِّر جانبًا كبيرًا من الأمن للمهاجرين بعيدًا عن بطش المشركين .

رابعًا : الحبشة بلد مستقل ليس لأحد عليها سلطان ، وكانت تتبع الكنيسة المصرية في الإسكندرية ، تبعية دينية وليست سياسية .

خامسًا : الحبشة بلد قوي في المنطقة ، وعليها ملك عظيم ، وكان أهل مكة يُعَظِّمون ملكها كثيرًا ، ولكن اتصف بالقوة والعظمة مع العدل ؛ مما يوفر الحماية للمهاجرين .

سادسًا : الحبشة بلد تجاري وصاحب قوة اقتصادية كبيرة .

ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر مؤمنًا بالهجرة إلى الحبشة ، عشرة رجال وأربع نسوة ، وكانوا أزواج أربعة من المهاجرين ، أربعة عشر مؤمنًا من القرشيين ، وليسوا المستضعفين ، فكانت هذه هي الطليعة الأولى من المهاجرين .

فمن هم هؤلاء المهاجرين الأوائل ؟

عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، وزوجته السيدة رُقَيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحبيبة قلبه .

إنها التربية بالقدوة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يذوق ألم الفراق كما يذوقه أصحابه من المؤمنين .

جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الهاشِمِيّ القرشي الشريف ، هو وزوجته السيدة أسماء بنت عُمَيس رضي الله عنها .

وكان باقي المهاجرين كذلك ينتسبون لعائلات ذات شرف ومكانة رفيعة ومَنَعة في مكة ، فكان منهم أيضًا :
عبد الرحمن بن عَوف رضي الله عنه من بني زهرة ، والزُّبَير بن العوَّام رضي الله عنه من بني أسد ، وأبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه من بني مخزوم ، وأبو حُذَيفَة بن عُتبة رضي الله عنه من بني عبد شمس ، ومُصعَب بن عُمَير رضي الله عنه من بني عبد الدار ، وعثمان بن مظعون رضي الله عنه من بني جمح .

ولقد تجلَّى تخطيط وإبداع النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة التي أخذ فيها بكل الأسباب المادية ؛ وذلك حتى يعلمنا كيف نسير على دربه ، وكذلك أخذ المسلمين بالأسباب لنجاح الهجرة .

فخرجوا في سِرِّيَّة كاملة ، ولم يُعلِموا أحدًا بهجرتهم .

كذلك فإنهم لم يخرجوا مجموعة واحدة ، بل متفرقين حتى لا يلفتوا الأنظار .

ولضمان عدم الاختلاف ولتوحيد الصف اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أميرًا عليهم من أنفسهم ، هو عثمان بن مَظعُون رضي الله عنه .

ولا ننسى كذلك التنوع الملموس بسبب انتماء هؤلاء المهاجرين الأولين لقبائل مختلفة في مكة ، وبذلك فلن تستطيع مكة أن تتحزَّب ضد قبيلة معينة .

وأصبح الموقف صعبًا جدًّا عليهم ، وكانت هذه هي الخُطة نفسها التي استعملها بعد ذلك أبو جهل عند محاولته قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة ؛ وذلك ليتفرَّق دمه صلى الله عليه وسلم بين القبائل .

أيضًا فإن هذا الوفد كان يضم خليطًا من قبائل مكة وبذلك يكون أكثر تأثيرًا على مَلِك الحبشة ، وسيعلم النجاشي أنها ليست حركة قبائلية ، وإنما دعوة دينية أخلاقية ، لا تُفَرِّق بين قبيلة وأخرى .

وسيكون هذا أدعى لرد كيد قريش إذا حاولت أن تكيد للمسلمين عند النجاشي .

وخرج المهاجرون من مكة خُفية ، واجتمعوا عند ساحل البحر .

وعلى الرغم من السِّرِّيَّة التامة التى أحاط بها المؤمنون أنفسهم أثناء هجرتهم ، عرف المشركون بالهجرة ، وحاولوا اللحاق بهم ، لكن المسلمون ابتهلوا إلى الله أن ينجيهم مما حاق بهم ، وحينها وجدوا سفينتين في البحر متجهتين إلى الحبشة ، فركبوا فيهما وانطلقوا بسم الله في وسط البحر .

فهل يا تُرى استطاع المشركون اللحاق بهم ؟

هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة إن شاء الله .

ندعوكم لقراءة : الكفار يسجدون عند سماع القرآن

زر الذهاب إلى الأعلى