الإبداء والإخفاء

الإبداء والإخفاء ، يعلمهما رب الأرض والسماء ، فيغفر لمن يشاء ، ويجعله من أهل النعيم والبقاء ، ويعذب من يشاء ، ويجعله من أهل البؤس والشقاء ، سبحانه بيده الأمر كله ؛ فليفهم العقلاء ، ويعيشوا حياتهم بين الخوف والرجاء ، والحمد والشكر والثناء .
ومن شأن الأخيار أن يكثروا إليه بخالص الدعاء .

” لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “. (سورة البقرة : 284)

هذا إخبار من الله أنه له ما في السماوات وما في الأرض ، الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية ، فكانوا ملكًا له وعبيدًا ، لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا ، وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه ، وقد أمرهم ونهاهم وسيحاسبهم على ما أسرّوه وأعلنوه ، فيغفر لمن يشاء وهو لمن أتى بأسباب المغفرة ، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره ، والله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء ، بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه .

وما دام الأمر كذلك فعليكم -أيها المؤمنون- أن تبذلوا نهاية جهدكم في العمل الصالح الذي بين أيديكم إنما هو عارية مستردة ، وأن المالك الحقيقي له إنما هو الله رب العالمين ، فأنفقوا من هذا المال -الذي هو أمانة بين أيديكم- في وجوه الخير واجمعوه من طريق حلال ، وكونوا من القوم العقلاء الصالحين الذين لم تشغلهم دنياهم عن أخراهم ، بل كانوا كما قالوا : رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ .
وقوله -سبحانه- : ” وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ” بيان لشمول علم الله- تعالى- لما أظهره الإنسان أو أخفاه من أقوال وأعمال ، وأنه سيحاسبه على ذلك بما يستحقه من خير أو شر .
والجملة الكريمة صريحة في أن الله- تعالى- يحاسب العباد على نياتهم وما تكسبه قلوبهم سواء أأخفوه أم أظهروه .
وقد بين المحققون من العلماء أن هذه المحاسبة إنما تكون على ما يعزم عليه الإنسان وينويه ويصر على فعله ، سواء أنفذ ما اعتزم عليه أم حالت دونه حوائل خارجة عن إرادته : كمن عزم على السرقة واتخذ الوسائل لذلك ولكن لم يستطع التنفيذ لأسباب لم يتمكن معها من السرقة التي أصر عليها .
أما الخواطر النفسية التي تجول في النفس ، وتعرض للإنسان دون أن يعزم على تنفيذها ، فإنها ليست موضع مؤاخذة ، بل إن التغلب عليها ، وكفها بعد مكافحتها يجعله أهلا للثواب .

ففي الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ” قال الله تعالى : إذا هم عبدى بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرًا “.

وروى الجماعة في كتبهم عن أبى هريرة قال ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ” إن الله تجاوز لي عن أمتى ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم “.

قال الفخر الرازي : الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين : فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود ، ومنها ما لا يكون كذلك ، بل تكون أمورًا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس .

فالقسم الأول يكون مؤاخذًا به .

والثاني لا يكون مؤاخذًا به ، ألا ترى إلى قوله- تعالى- : ” لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ “.

وقال الآلوسى : المؤاخذة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ، وليس كذلك سائر ما يحدث في النفس ؛ أي من خواطر لا تصميم ولا عزم معها .

قال بعضهم :

مراتب القصد خمسٌ هاجسٌ ذكروا … فخاطرٌ فحديثُ النفسِ فاستمعا

يليه هَمٌّ فعزمٌ كلها رُفِعَت … سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

وقوله تعالى :

” فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ” بيان لنتيجة المحاسبة التي تكون من الخالق -عز وجل- لعباده .

أى : أنه- سبحانه- بمقتضى علمه الشامل ، وإرادته النافذة ، يحاسب عباده على ما أسروه وما أعلنوه من أقوال وأعمال ، فيغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له ، ويعذب بعدله من يشاء أن يعذبه ، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه .

وقوله : فَيَغْفِرُ ويُعَذِّبُ ، قرأه عاصم وابن عامر ويعقوب وأبو جعفر برفع الراء والباء على الاستئناف أى فهو يغفر ، وقرأ الباقون بإسكانهما عطفًا على جواب الشرط وهو قوله : يُحاسِبْكُمْ .

وقوله : ” وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته -سبحانه- على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما سبق ذكره من المحاسبة لعباده ، وإثابة من يشاء إثابته وتعذيب من يشاء تعذيبه ، فهو القاهر فوق عباده ، وهو الحكيم الخبير .

ثم ختم -سبحانه- سورة البقرة بآيتين كريمتين في أولاهما أن رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم امتداد للرسالات السماوية السابقة وخاتمة لها ومهيمنة عليها ، وبيَّن في الثانية أنه -سبحانه- لم يكلف الناس إلا بما في قدرتهم ، وأنهم سيُحَاسَبون على أعمالهم ، وأن من شأن الأخيار أن يكثروا من التضرع إليه بخالص الدعاء .

ندعوكم لقراءة : أغلى واو جماعة

– من روائع البيان القرآني :

من روائع البيان القرآني قوله تعالى :

” لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” (البقرة : 284) ،

وقوله تعالى :

” قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “. (آل عمران : 29)

في البقرة قدَّم اﻹبداء على اﻹخفاء ، وفي آل عمران قدَّم اﻹخفاء على اﻹبداء ، فما سبب ذلك ؟

في البقرة قال جل شأنه : ( يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) ، وفي آل عمران قال : ( يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ ) ، فلما قال يحاسبكم قدّم اﻹبداء ، ولما قال يعلمه قدّم اﻹخفاء .

وسبب النزول : لما نزل قوله تعالى : ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) اﻵية ، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله فقالوا : كُلِّفنا من اﻷعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أُنزلت عليك هذه اﻵية وﻻ نطيقها !! فقال صلى الله عليه وسلم : ” أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : ( سمعنا وعصينا ) ؟ قولوا ( سمعنا وأطعنا ) ” ، فلما قرأها القوم وجرت بها ألسنتهم ، أنزل الله تعالى : ( ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ) ، ونسخها الله تعالى فأنزل : ( لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ).

فالحمد لله على المحاسبة على اﻹبداء دون اﻹخفاء ، أما في آل عمران فقد سبقها قوله تعالى : ( لَّا يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ….. ) وهذا من اﻹخفاء ، كما جاء في أول السورة قوله تعالى : ( إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَآءِ ) آية 5 ، كما أنه ختم اﻵية بقوله : ( وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ).

فكل كلمة جاءت في مكانها المناسب بها .

سبحان من هذا كلامه ، ولا يُقال لغيره سبحان .

وقد أكرم الله المسلمين بعد ذلك ، فعفا عن حديث النفس وخطرات القلب ما لم يتبعها كلام أو عمل ، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فقد أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ ، اشتد ذلك على الصحابة .
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا : يا رسول الله ، كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة ، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير “.
فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ الآية .. فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل : ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ إلى آخر الآية .

ووردت أحاديث أخرى في ذلك .

– وقفات :

ورد فيما ذُكر روايات ، أن الآية التالية لقوله تعالى : ” وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ” ناسخة لهذه الآية .

وليس المراد من لفظ ( النسخ ) في هذه الروايات وما شابهها المعنى الأصولي لـ ( النسخ ) ، وهو رفع الحكم ، بل المراد بالنسخ هنا : البيان والتخصيص .

قال ابن عاشور : إن من سمى ذلك ( نسخًا ) من السلف ، فإنما جرى على تسمية سبقت ضبط المصطلحات الأصولية ، فأطلق ( النسخ ) على معنى ( البيان ) ، وذلك كثير في عبارات المتقدمين .

وقال أيضًا : وإطلاق ( النسخ ) على هذا اصطلاح للمتقدمين ، والمراد البيان والتخصيص ؛ لأن الذي تطمئن له النفس : أن هذه الآيات متتابعة النظم .

الآية الأخيرة من سورة البقرة ، ورد فيها الدعاء التالي : ” رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَـٰنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ “. (البقرة : 286)

قال النووي : هذا الدعاء ينبغي أن يُحفظ ، ويدعى به كثيرًا .

وقد ورد في حديث صحيح أن ” من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه “. (متفق عليه)

قيل : كفتاه من قيام تلك الليلة .. وقيل : كفتاه من كل سوء وشر .

Exit mobile version