من عبق التاريخ

الأم مدرسة 1

الأم مدرسة :

– لله در شاعر النيل حافظ إبراهيم القائل :

الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها … أَعدَدتَ شَعبًا طَيِّبَ الأَعراقِ

الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا … بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ

الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلَى … شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدَى الآفاقِ

– في التاريخ الإنساني عبر عصوره الطويلة المختلفة نماذج مضيئة لأمهات عظيمات ..

كافحن وجاهدن في تربية أبنائهن حتى الممات .

سكبن العَرَق والدمع معًا وكان في إثرهما الرحمات .

أكان لهذا الأمر غيرهن صوالح ، وقد هَوَّنَتْهُ عندهن السنوات .

وفقهن الله للعظائم ، وزَيَّن لهن الأفعال والعزمات .

– ولله در شوقي القائل في ديوانه ( الشوقيات ) :

إذا زُلزِلت من حولهن الأرض … رادها وقارهن حتى تسكن الجنبات

  • السيدة هاجر :

السيدة هَاجَر المِصرية هي أم نبي الله إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ، الذي جاء من نسلهما خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا مُحَمَد صلى الله عليه وسلم .

وقد كانت إحدى الأميرات المِصريات ثم أُسِرَت إلى أن أصبحت جارية لسارة زوجة نبي الله إبراهيم عليه السلام ، ثم أهدتها إليه فتزوجها ، وأنجبت منه إسماعيل .

وأمر الله خليله إبراهيم أن يخرج بإسماعيل وأمه إلى مكة ، وكانت لا زرع فيها ولا ماء .

ترك الخليل إبراهيم زوجه هاجر وولدهما إسماعيل ، في ذلك المكان ومعهما قليل من التمر وقربة صغيرة فيها قليل من الماء .
فسألته الأم الرؤوم : آلله أمرك بهذا ؟
فأجاب : نعم ، فقالت : إذن لن يُضيعنا .

قال الله تعالى على لسان الخليل إبراهيم عليه السلام :

” رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ “. (إبراهيم : 37)

ثم هم عائدًا إلى بلاد الشام .

  • بئر زمزم :

نفد التمر والماء من بين يدي هاجر ، واشتدت حرارة القيظ فعطشت هي وابنها ، وراح يتلوى من الجوع والعطش فلم تعد هاجر تطيق رؤية طفلها على هذه الحال ، فراحت تنظر إليه ، ولا تدري ماذا تفعل .

أتترك ولدها يموت جوعًا وعطشًا ، لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا المصير .

قامت هاجر في الوادي في « موضع السعي أيام الحج » .. انطلقت هاجر تبحث عن الماء في كل اتجاه ، وكان الصفا أقرب جبل إليها ، فصعدت عليه وراحت تنظر يمنة ويسرة وفي كل ناحية ؛ ثم لاح لها على المروة سراب ظنته ماءً ، نزلت عن الصفا وراحت تسعى مهرولة في الوادي باتجاه المروة ، وفي ظنها أنها ستجد الماء .

وهكذا في كل مرة ، حتى فعلت ذلك سبع مرات وطفلها لم يفارق مخيلتها ، ولم تكن تطيق أن يغيب عن ناظريها .

فلما كانت في المرة السابعة ، وقد اشتد بها العطش ، وأخذ منها التعب ، وأنهكها المسير ، دون أن تعثر على الماء .

نظرت إلى طفلها فإذا الماء ينبع من تحت قدميه ، فأتته مسرعة وراحت تجمع حوله الرمل وهي تقول : زم زم .. ثم أخذت تشرب من الماء حتى ارتوت وانحنت على إسماعيل لتسقيه .

  • أم موسى :

وُجد موسى عليه السلام في ظرف كان فيها فرعون مصر قد تمادى في غيه ، وعلا في الأرض عُتُوًّا وفسادًا .

قال كاهنٌ لفرعون : يُولد مولود في بني إسرائيل ، يذهب ملكك بيده .

جُنَّ جنون فرعون ، وأخذ يُذَبِّح الأبناء ، ويستحيي النساء .

كانت أم موسى تجلس في بيتها قلقة خائفة حتى جاءها المخاض ، فلما وضعت حملها ، كتمت أمره عن الناس ؛ مخافة أن يصيبه ما يُصيب أمثاله من قاتل الأطفال .

ألهمها الله عز وجل أن تضع وليدها في صندوق ، وتلقي به في نيل مصر ، مُسَلِّمة أمرها إلى الله عسى أن يقع في يد بعيدة تحفظه مما يُراد به .

وقد طلبت أم موسى من ابنتها أن تتبع أثر أخيها ؛ لتنظر ماذا سيكون من أمره .

سارت أخت موسى تتتبع أثر أخيها هنا وهناك ، وكانت المفاجأة ؛ وهي إرادة الرب العَليّ ، واللطف الخَفِيّ ، أن حُمِل الصندوق إلى قصر فرعون .

ولم تكد تقع عين امرأة فرعون على هذا الطفل الوليد الجديد حتى ألقى الله محبته في قلبها ، فطلبت من فرعون أن يكون ابنًا لها ، وبقدر ما فرحت امرأة فرعون بهذا المولود الذي دخل حبه إلى قلبها من غير استئذان ، بقدر ما كان قلب أم موسى يكابد الهم ويُعتصر إشفاقًا على وليدها ، بيد أنها كانت واثقة بحفظ الله له ، ورعايته إياه .

وأخذت امرأة فرعون تحضر للمولود الجديد مرضعة تقوم بشأنه ، بيد أن موسى الرضيع لم يقبل ثدي أي واحدة من المرضعات ، ثم هدى الله أخت موسى إلى بيت فرعون ، فطلبوا منها أن تأتي بمن يكفله ، فجاءت بأمها على أنها مرضعة من المرضعات ، فعرضوا عليه ثديها فقبله ، فطلبوا منها أن تأخذ الطفل ، وتعتني به ريثما يكبر ويشب عن الطوق .

أتمت أم موسى رضاع وليدها ، ثم أسلمته إلى القصر الفرعوني ، وهناك كبر وأصبح ذا شأن في البلاط ، وعندما بلغ موسى تمام الأربعين ، أوحى الله إليه بالرسالة ، وأمره أن يبلغها إلى فرعون وقومه .

يا لها من أم !

قال تعالى : ” وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ “. (القصص : 7-13)

  • مريم العذراء أم عيسى عليهما السلام :

حكى القرآن الكريم عن ولادة المسيح عيسى من السيدة مريم العذراء ، وقد سُجلت هذه الحقيقة فى القرآن فى سورة مريم ، قال الله تعالى :

” وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا “.

مريم ابنة عمران سيدة نساء العالمين ؛ قال الله الملك الحق :

” وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَائِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَـٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ “. (آل عمران : 42)

ندعوكم لقراءة : الأم مدرسة 2

  • الخنساء :

هي تماضر بنت عمرو شاعرة الجاهلية والإسلام .

قبل معركة القادسية الكبرى عندما أخذ المسلمون يحشدون جنودهم ، ويعدون عدتهم لمواجهة الفرس ، أخذت الخنساء تحمّس أبناءها الأربعة للجهاد .

فلما تلاقى الفريقان في المعركة ، أخذت تتلقى أخبار أبنائها وأخبار المجاهدين ، وجـاءها النبأ باستشهادهم ، فقالت : الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم ، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مُستقرِ رحمته .

  • أم الإمام سفيان الثوري :

سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث كان وراءه أمٌ صالحة تكفلت بتربيته والإنفاق عليه فكان ثمرتها .

يقول الإمام سفيان الثوري : لما أردتُ طلب العلم قلتُ : يا رب ، لابد لي من معيشة ، ورأيتُ العلم يضيع ، فقلتُ : أفرغ نفسي في طلبه ، وسألتُ الله الكفاية ( أن يكفيه أمر الرزق ) ، فكان من كفاية الله له أن قيَّض له أمه ، التي قالت له : يا بنيّ ، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي .

  • أم الإمام الشافعي :

عندما مات والد الإمام الشافعي ، كان وفاء الأم أن تجعل الابن محمد بن إدريس الشافعي إمامًا ، فأخذته من غزة إلي مكة ، وهناك تعلم القرآن وهو ابن سبع سنوات ، ثم أرسلته إلى البادية ؛ ليتعلم اللغة العربية ، ثم الفروسية والرماية ، ثم أرسلته إلى أئمة العصر في ذلك الوقت إلى أن أجازه الإمام مالك للفتوى وسنه خمسة عشر عامًا !

  • أم عبد الرحمن الناصر :

الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر الذي حكم الأندلس وأحيا الخلافة الأموية هناك ، ثم خاض المعارك والملاحم مع الأوربيين ، وأصبحت قرطبة في عهده مقر خلافة يحتكم إليها أمراء أوربا وملوكها ، ويذهب إلى جامعتها طلاب العالم .

سر هذا كله أمه التي ربته ، فقد نشأ عبد الرحمن يتيمًا ، فاعتنت أمه بتربيته ورعايته حتى أصبح من أعظم الخلفاء المسلمين في أوربا كلها .

  • أم محمد الفاتح :

كانت أم السلطان محمد الفاتح تأخذه وهو صغير وقت الفجر ؛ ليشاهد أسوار القسطنطينية وتقول له : أنت يا محمد تفتح هذه الأسوار ، اسمك محمد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومحمد الصغير يقول : كيف يا أمي أفتح هذه المدينة الكبيرة ؟!

فترد قائلة : بالقرآن والسلطان والسلاح وحب الناس .

  • أم ربيعة الرأي :

ربيعة بن فروخ أحد سادات التابعين ، وأحد الأعلام المشهورين ، فقيه المدينة المنورة وعالمها ، وأحد المحدِّثين العظام ، وشيخ الأئمة الكبار مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري والليث بن سعد .

تربى في كنف أمه سهيلة عندما خرج أبوه فروخ للغزو ، وهو جنين في بطن أمه ؛ حيث غاب عنهم سبعة وعشرين عامًا .

ولدت سهيلة ولدها ربيعة في غيابه وربته تربية صالحة ، وذهبت به إلى العلماء ليطلب العلم منذ صغره ، ويتفقه على كبار التابعين في المدينة المنورة ، وصبرت عليه تشد من أزره ، وتحثه على طلب العلم والتزود منه بمالها ونفسها ، فكانت له بمثابة الأب والأم معًا ، فقد قضت شبابها تعلِّمه وتربيه وتُهيِّئه لهذا المنصب الكبير ، وحرَمت نفسها مِن مُتعِ الدنيا من أجل ولدها وفلذة كبدها .

أثمر هذا الجهد الثمرة التي كانت ترقُبها ، وأسفر عن صدق نيتها وصدق بذلها وعطائها ، فأصبح ابنها الصغير أحد فقهاء المدينة الكبار ، وعقدت له حلقة في المسجد النبوي وهو لا يزال صغيرًا يجلس إليه العلماء ، ويتوافد على حلقته طلاب العلم ، ينهلون من علمه ، ويغرفون من بحره ، وأصبحت حلقته مدرسة يتلقون فيها علوم الدين والعربية والحديث والفقه .

وعندما عاد والده إلى المدينة ودخل المسجد ، رأى حلقة قد اجتمع الناس عليها ، ورأى شابًّا وسيمًا على رأسها ، فجلس ينظر إليه ، ويستمع إلى علمه ، ويُنصت إلى حديثه ، فسأل من بجانبه فأخبره أنه يعرف بربيعة الرأي ، فعاد إلى بيته وهو يتذكر ذلك العالم الشاب ، فقرَع الباب ففتح له ذلك الشاب الذي رآه في المسجد ، فاستغرب وجوده في بيته ، فعرفته زوجته أنه رجع ، فأخبرته بحقيقة ذلك الشاب ، وأنه ابنه الذي غاب عنه وهو في بطنها ، قد أصبح اليوم كما ترى ، فسُرَّ به وكاد أن يُغشى عليه من الفرح ، ويطير من السعادة .

يا الله شاب يقصده الناس من كل مكان لينهلوا من علمه ، ثم علِم جهدَ تلك الأم الصالحة وتعبها وصبرها ، وتحمُّلها تلك السنين الطويلة من البعد والفراق .

إنها المرأة الصالحة والأم العظيمة التي علَّمت ابنها طريق العظمة ، فسارت به إليه .

  • أم الإمام مالك :

العالية بنت شريك بنت عبدالرحمن الأسدية والدة الإمام مالك بن أنس رحمه الله ؛ حيث يقول عنها :
{ نشأت وأنا غلام ، فأعجبني الأخذ من المغنين ، فقالت أمي : يا بني ، إن المغني إذا كان قبيح الوجه ، لم يُلتفت إلى غنائه ، فدع الغناء واطلُب الفقه ، فتركت المغنين وتبعت الفقهاء ، فبلغ الله بي ما ترى }.

عبارة من أم صالحة غيَّرت حياة ابنها ، من طلب الدنيا الفانية واتباع الفُساق والمغنين ، إلى طلب الآخرة التي فيها غايته وهدفه ؛ حيث وجَّهته إلى ما فيه حياته ، ورفعة شأنه في الدنيا والآخرة ، وهو طلب العلم والتفقه على كبار التابعين الذين كانت المدينة تزخر بهم ، فلما أطاعها أصبَح عالم المدينة وفقيهَها المبجل ، وأصبح تُشد إليه الرحال لطلب العلم ، وعلى بابه تتزاحم الرجال لسماع حديثه ، والأخذ من علمه والجلوس بين يديه ، وهل اكتفت هذه الأم الصالحة بالتوجيه لولدها وفلذة كبدها ، بل كما أخبر الإمام مالك عن والدته : { فألبستني ثيابًا مشمرة ، ووضعت الطويلة على رأسي -أي القلنسوة الطويلة- وعمَّمتني فوقها } ، ثم قالت : { اذهب فاكتُب الآن } ، هيَّأتْه لطلب العلم ، وألبستْه لباس العلماء ؛ لتشدَّ من عزيمته ، وتوقد الهمةَ في قلبه ، ثم ذهبت به إلى حلقات العلم ؛ ليُدوِّن ما يسمع ، ويكتُب ما يُملَى عليه فيها ، فانكبَّ هذا الطفل على الطلب وتتلمذ على كبار فقهاء المدينة وعلمائها ، حتى غدا شامة بينهم ، وعلامة بارزة في التاريخ ، فلا تجد بابًا للفقه أو مسألة في العلم ، إلا سمعت لمالك بن أنس فيها رأيًا ، أو لتلاميذه في حكمها قولًا ، فألَّف الكتب العظام التي سارت بها الركبان ، واستقبلتها الأمة بالقبول ؛ حتى إن أبا جعفر المنصور أراد أن يجعل كتبه وراءه دستورًا لأمة الإسلام من المشرق إلى المغرب ، ولكنه رفض ذلك واعتذر عنه ؛ لأن هذه أقوال وفي الأمة من له آراء وأقوال يتَّبع بها صحابة النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذه الأم الصالحة والمربية الفاضلة لم تكتف بإرسال ابنها ليطلب العلم ، ويجالس العلماء ، بل كانت تَحثه على تعلُّم الأدب قبل العلم ، فكانت تقول له : { اذهب إلى ربيعة فتعلَّم من أدبه قبل علمه } ، فجمع مع علمه الواسع أدبَه الجم ، ومع شدة حفظة وقوة ذاكرته ، وحُسن اتباعه ، احترامَه للعلم وتقديره للعلماء ، فلا يلقى درسًا فيه سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، إلا متوضئًا طاهرًا ، خافتًا صوته أن يرتفع في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .

هذا هو الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة وشيخها ، كان حسنة من حسنات هذه الأم الصالحة ، وثمرة من ثمرات صبرها وتوجيهها له ، وحثه على طلب العلم والتأدب بآدابه .

فكلُّ علمٍ علِمه ، لها مثله في صحيفتها ؛ أجرًا على كفاحها وصبرها ، رحمها الله وأجزل لها المثوبة .

  • أم الإمام أحمد :

صفية بنت ميمونة رحمها الله والدة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، عظيم من العظماء ، ورابع الأئمة المتبوعين ، وإمام الحديث وشيخ الجرح والتعديل في زمانه ، فقد كان رحمه الله آية في الحفظ وثبَتًا في النقل ، وكان عالِمًا مُبرَّزًا في الحديث واللغة ، علا كعبه في الحديث وعلوم الرجال ، حتى أصبح يقصده العلماء من أقصى الشرق والغرب ؛ لينهلوا من علمه ، ويتشرفوا في طلب العلم عليه ، فهو إمام أهل السنة والجماعة ، وشيخ الجرح والتعديل في زمانه ، حتى قال عنه شيخه الإمام الشافعي رحمه الله : { خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدًا أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل }.

هذا العلَم الجليل كانت وراءه امرأة تقية ، وأُمًّا صالحة صابرة نقية ؛ وهي صفية بنت ميمونة التي مات عنها زوجُها وأحمد صغير في كنفها ، فربْته وعلْمته الكتاب والسنة ، وكانت تحثه على طلب العلم ، والذهاب إلى حلقات العلماء ، فقد قال عنها الإمام أحمد رحمه الله : كانت توقظني قبل صلاة الفجر ، فتُحمي لي الماء ، ثم تخرج معي إلى المسجد خوفًا عليَّ ؛ لأن المسجد كان بعيدًا عن داره ، وكانت تنتظره خارجًا حتى يعود ، وهكذا تعمل في حياتها بين تربية فلذة كبدها ، والسير معه إلى حلقات العلم ، ترقُبه وتنظر إليه ، ونفسها تطمح أن يكون عالِمًا مهابًا ، يَملأ الدنيا علمًا وفقهًا ، ولم يُخيب الله رجاءَها ، فقد جنت ثمرة تلك التربية في حياتها ، فقد أصبح ابنها الصغير إمام الدنيا ، وعالمها الهمام ، وسيد العلماء بلا منازع ؛ حيث حفظ الله به السنة وقمع به البدعة ، وأصبح يلقَّب بإمام أهل السنة.

إنها الأم الصابرة الصالحة التي وقفت نفسها وحياتها لتربية ابنها على الدين والأخلاق وحب العلم .

– لله در الشاعر القائل :

إن لم تكن أُمٌ فلا أمةٌ … فإنما بالأمهات الأممُ

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى