الأعمال بالخواتيم
الأعمال بالخواتيم :
المعلم صلى الله عليه وسلم دائمًا ما يدلنا على كل خير من أمور الدنيا والآخرة ، وهاهو يوضح لنا في نهاية هذا الحديث النبوي الشريف أن الأعمال إنما تكون بالخواتيم ؛ فعن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق :
” إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد .
فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها “.
( رواه البخاري ومسلم ).
قال ابن الجوزي -رحمه الله- : { إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار ، بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق ، فلا تكن الخيل أفطن منك ، فإنما الأعمال بالخواتيم فإنك إذا لم تحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع }.
وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ ، ثُمَّ يُخْتَمُ له عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، ثُمَّ يُخْتَمُ له عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ “.
- المراد بالخواتيم :
ما يعمله العبد في ختام عمره وآخر حياته .
وقد حمله الباجي في شرح الموطأ على أن آخر عمل الإنسان أحق به ، وعليه يُجازَى ، ووجه ذلك : أن من انتقل من العمل السيئ إلى العمل الأحسن يعتبر تائبًا ، ومن انتقل من الإيمان إلى الكفر يعتبر مرتدًّا .
ويمكن حمله كما قال ابن حجر على من يعمل العمل الصالح رياء ونفاقًا ثم يختم له بالشر .
وفي حديث البخاري : إن العبد ليعمل في ما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار ، ويعمل في ما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنة ، وإنما الأعمال بخواتيمها .
ويدل لما قال الباجي حديث أحمد في المسند : لا عليكم أن لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بم يختم له ، فإن العامل يعمل زمانًا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ، ثم يتحول فيعمل عملًا سيئًا .
وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار ، ثم يتحول فيعمل عملًا صالحًا .
وإذا أراد الله بعبده خيرًا استعمله قبل موته .. قالوا : يا رسول الله ، وكيف يستعمله ؟ قال : يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه . (صححه الأرناؤوط والألباني)
** قصة التائب قاتل المائة :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
” كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا ، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على راهب ، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة ؟ فقال : لا .. فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدُل على رجل عالم فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم .. ومن يحول بينه وبين التوبة ، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك ؛ فإنها أرض سوء .. فانطلق حتى إذا نصف الطريقَ أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرًا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم حكمًا ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسموا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة “.
( متفق عليه ).
وفي رواية في الصحيح : ” فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها “.
وفي رواية في الصحيح : ” فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقاربي ، وقال : قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له “.
ندعوكم لقراءة : الأعمال بالنيات
** الأُصيرم :
وهذا نموذج آخر لموضوعنا ، وهو ذلكم الصحابي الذي لم يسجد لله سجدة ، ودخل الجنة ؛ ذلك أنه أسلم ، ثم دخل المعركة فقاتل ، ثم قُتل ، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة .
جاء في [ أسد الغابة ] لابن الأثير :
رجل دخل الجنة ولم يُصلِّ لله عز وجل صلاة .
فإذا لم يعرفه الناس ، فهو أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش وذلك أنه كان يأبى الإسلام ، فلما كان يوم أحد بدا له في الاسلام فأسلم ، ثم أخذ سيفه فقاتل فأثبتته الجراح فخرج رجال بني عبد الأشهل يتفقدون رجالهم في المعركة فوجدوه في القتلى في آخر رمق ، فقالوا هذا عمرو فما جاء ؟ فسألوه ما جاء بك يا عمرو أحد بأعلى قومك أم رغبة في الإسلام ؟
فقال : بل رغبة في الإسلام ، أسلمت وقاتلت حتى أصابني ما ترون ، فلم يبرحوا حتى مات ، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه لمن أهل الجنة .
** الفضيل بن عياض :
أحد أعلام أهل السُّنَّة في القرن الثاني الهجري .
لُقِّب بـ « عابد الحرمين ».
وقد كان قاطع طريق ، والهداية من الله جل في علاه .
هداه الله وختم له بخير ، حتى إنه أصبح إمام الحرمين ؛ فالأعمال بالخواتيم .
روى ابن عساكر بسنده عن الفضل بن موسى قال : كان الفضيل شاطرًا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس ، وكان سبب توبته أنه عشق جارية فبينما هو يرتقى الجدران إليها سمع تاليًا يتلو « أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ » ، قال : يارب قد آن فرجع فآواه الليل إلى خربة فاذا فيها رفقة فقال بعضهم : نرتحل ، وقال قوم : حتى نصبح فإن الفضيل على الطريق يقطع علينا ، قال : ففكرت وقلت : أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني ، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع .
اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام .
اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين .