نبينا محمد ﷺ

أربعون خصلة

” أربعون خصلة ، أعلاها منيحة العَنز “.

كأنها كَنز ، ما هذا الفضل والعز ؛ فبالله ورسوله نعتز .

من يعمل بخصلة منها ؛ يدخله الله الجَنَّة ، فلله الحمد والمِنَّة ، وصلى الله وسلم على نبينا صاحب السُّنَّة .

ونأتي إلى الحديث النبوي الشريف ، وهو سهلٌ وخفيف :

عنْ أَبِي محمدٍ عبدِاللَّهِ بنِ عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ : ” أَرْبعُونَ خَصْلةً أَعلاها منِيحةُ الْعَنْزِ ، مَا مِنْ عامَلٍ يعملَ بِخَصْلَةٍ مِنْها رجاءَ ثَوَابِهَا وتَصْدِيقَ موْعُودِهَا إِلاَّ أَدْخلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجنَّةَ “. (رواه البخاري)

قال حسان : فعددنا ما دون منيحة العنز ، من رد السلام ، وتشميت العاطس ، وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه ، فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة .

و( منيحة العنز ) : أي : عطية لبن الشاة .. كما في ” فتح الباري ” (1/160) .

وهذا الإمام النووي رحمه الله يقول : تُستَحَب المنيحة ، وهي أن تكون له ناقة أو بقرة أو شاة ذات لبن ، فيدفعها إلى من يشرب لبنها مدة ، ثم يردها إليه ، لحديث ابن عمرو بن العاص ؛ وذكر الحديث السابق .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ” نِعْمَ المنيحة اللقحة الصفي منحة ، أو الشاة الصفي تغدو بإناء وتروح بإناء “. (رواه البخاري)

وعنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : ” من منح منيحة غدت بصدقة صبوحها وغبوقها “. (رواه مسلم)

وفى المسألة أحاديث أُخَر صحيحة ( انتهى من ” المجموع ” 6/243 ).

وقد بين العلماء شراح الحديث أن مقصود هذا الحديث بيان كثرة طرق الخير ، وأن الأعمال الصالحة كثيرة جدًّا ، من عمل بها رجاء ثوابها مخلصًا بها قلبه دخل الجنة .

يقول ابن بطال رحمه الله : وأما قوله عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام : ( أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ ) ولم يذكر الأربعين خصلة في الحديث -ومعلوم أنه كان عالمًا بها كلها لا محالة- إلا لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها ، وذلك -والله أعلم- خشية أن يكون التعيين لها ، والترغيب فيها ، زهدًا في غيرها من أبواب المعروف وسبل الخير ، وقد جاء عنه عَلَيْهِ الصلاة والسَّلام من الحض على أبواب من أبواب الخير والبر ما لا يحصى كثرة .

وفي هذا يقول العلامة ابن باز رحمه الله : ينبغي للمؤمن أن يجتهد في أنواع الخير وألا يحقر شيئًا من المعروف ولو قليلًا ويكفيه في هذا قوله جل وعلا : ” فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ” (الزلزلة : 7) ، ويقول سبحانه : ” إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ” (النساء : 40) .

ويقول جل وعلا : ” وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ “. (الأنبياء : 47)

فهذا يدل على أن الله جل وعلا يحصي على العباد ما لهم وما عليهم ، ثم يعفو عمن يشاء بعد السلامة من الشرك ، لكنه لا يضيع عمل عامل ، بل جميع أعمال العاملين من الخير وإن دقت تجمع لهم ويجدون ثوابها ، ولهذا يقول ﷺ : ” أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز ” ، الإنسان يمنح أخاه عنزًا أو شاة أو بقرة أو غيرها يأخذ لبنها ثم يعيدها ، من أتى بواحدة منها رجاء ثوابها وتصديقًا لموعودها أدخله الله بها الجنة ، هذا فضل عظيم يتحرى الخير ويتحرى طرق الخير ويقول عليه الصلاة والسلام : ” ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما يقدم ، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار ، فاتقوا النار ولو بشق تمرة “. (متفق عليه)

فمن لم يجد فبكلمة طيبة ؛ من لم يجد شق تمرة يتصدق بشيء قليل ولو بالكلمة الطيبة ؛ كقولك : جزاك الله خيرًا ، بارك الله فيك ، أحسنت ، غفر الله لك ، كلمة طيبة عند المناسبة .

وهكذا في الحديث الآخر أن النبي ﷺ أمر بالصدقة قالوا : يا رسول الله فإن لم يجد ؟ قال : يعمل بنفسه ، يعمل ويتصدق ، قالوا : فإن لم يستطع ؟ قال : يعين ذا الحاجة الملهوف ، قالوا : فإن لم يستطيع ؟ قال : يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، قالوا : فإن لم يستطع ؟ قال : يكف شره عن الناس ، يمسك شره عن الناس ، فالمؤمن هكذا يلاحظ وجوه الخير وأسباب الخير حسب الطاقة ويحذر أسباب الشر .

ومن قوله ﷺ : ” وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ” ، وفي اللفظ الآخر : ” من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة “(رواه البخاري) ؛ فالمؤمن يحفظ لسانه ويحفظ جوارحه ويجتهد في أعمال الخير ، ولو قلت لا يحتقر شيئًا ، ومن قوله ﷺ : ” لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق “.

ندعوكم لقراءة : معلم الصدق

– لا تحتقر شيئًا من وجوه الخير :

هكذا يعلمنا المعلم الأول للمسلمين ، محمدٌ الأمين ، صلى وسلم عليه رب العالمين ، ألا نحقر شيئًا من وجوه البر مهما كان صغيرًا .

فقد ذكر ذكَر أحدُ رُواةِ الحديثِ -وهو حسَّانُ بنُ عَطيَّةَ الشَّاميُّ- أنَّه وغيرَه عَدَّدوا ما ظنُّوه أقلَّ مِن مَنِيحَةِ العَنْزِ ؛ كرَدِّ السَّلامِ ، وتَشميتِ العاطسِ بالدُّعاء له بعْدَ حمْدِه للهِ ، وإزالةِ الأذى عن طُرُقاتِ النَّاسِ ، فذكَر أنَّهم لم يَستطيعوا عَدَّ خمْسَ عشْرةَ خَصلةً .

وقدْ جمَع غيرُه مِن العلماءِ ، فبلَغَ بها الأربعينَ ، وقد تَختلِفُ الأنظارُ في كونِها دونَ مَنيحةِ العَنزِ أو أعلى منها ، ولعلَّ الخيرَ في عدَمِ ذِكرِها ، كما فعَل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ؛ وذلِك خَشيةَ أنْ يكونَ التَّعيينُ لها مُزهِّدًا في غيرِها مِن أبوابِ البِرِّ ، ولأنَّ هذا الأجرَ إنْ كان مُترتِّبًا على مَنيحةِ العَنزِ فما دونَها ، فما الظَّنُّ بما هو أعظَمُ منها ؟!

وقيل : مِن أَوجُهِ الحكمةِ في إبهامِه ألَّا يُحتقَرَ شَيءٌ مِن وُجوهِ البِرِّ وإنْ قلَّ .

– راوي الحديث :

يقول الدكتور خالد السبت عن حديث ” أربعون خصلة أعلاها ، منيحة العَنز ” ، وعن راوي الحديث عبدالله بن عمرو :

من الأحاديث الدالة على كثرة الطرق إلى الخير : حديث أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي -رضي الله عنهما- وهو من خيار أصحاب النبي ﷺ كما هو معروف ، ومن عُبَّاد الصحابة وزهادهم ، وعلمائهم ، وكان رضي الله عنه قد روى عن رسول الله ﷺ أحاديث كثيرة ، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه : ما كان أحد أكثر رواية للحديث -أو أخذًا للحديث أو حديثًا- مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب ، مع كثرة حديث أبي هريرة .

ولكن الرواية عنه قلّت ؛ لأنه سكن في مصر ، ولم يكن الوارد إليها كثيرًا ، بخلاف أبي هريرة ، فقد استوطن المدينة ، والناس يرِدون إليها ، ويفدون إليها من كل مكان .

وكان بينه وبين أبيه عمرو بن العاص اثنتا عشرة سنة ، يكبره أبوه باثنتي عشرة سنة فقط ، وخبره معروف حينما زوجه أبوه امرأة من أشراف قريش وخيارهم ، فبقي أبوه بعد أسبوع ، ثم أتاها فسألها ، فقالت : نعم الرجل ، لم يطأ لنا فراشًا ، ولم يكشف لنا سترًا ، كان مشغولًا بقيام الليل وصيام النهار ، فشكاه إلى النبي ﷺ ، كان يصلي إلى الفجر ، ويصوم كل يوم ، وخبره في ذلك مشهور .

وروايته التي أحصيت عن رسول الله ﷺ بلغت نحوًا من سبعمائة حديث ، اتفق الشيخان على سبعة عشر حديثًا منها ، ولمسلم عشرون ، وللبخاري ثمانية .

كانت وفاته في حدود سنة ثلاث وستين أو خمس وستين ، وقيل غير ذلك ، قيل توفي بمكة ، وقيل في الطائف ، وقيل بمصر .

رضي الله عن الصوَّام القوَّام ، التقي النقي ، عبدالله بن عمرو بن العاص ، وعن أبيه ، وعن سائر الصحب الكرام .

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى