أبو محذورة :
بلال بن رباح ، بُلبُلٌ صَدَّاح ، حيَّ على الصلاة ، حيَّ على الفلاح .
وبلبلٌ جديد ، جاء من بعيد ، اسمه أبو محذورة ، جميل الصوت والصورة .
كان أبو محذورة ، جميل الصوت والصورة .. قال الذهبي عنه : { كان من أندى الناس صوتًا وأطيبه }.
قال بعض شعراء قريش في أذانه :
أما ورب الكعبة المستورة … وما تلا محمد من سورة
والنغمات من أبي محذورة … لأفعلن فعلة مذكورة
كان أبو محذورة قبل إسلامه معاندًا مستهزئًا ، ثم أصبح -بفضل الله- من كبار الصحابة ، كما أصبح رجلًا مؤثرًا فى تاريخ الإسلام والمسلمين .
هيا لنعيش مع أحد مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم :
هو واحد من شباب الصحابة الكرام ، ولكنه كان -قبل إسلامه- مستهزئًا بالأذان يقلده بسخرية ، فأصبح بين ليلة وضحاها مؤذنًا للحرم المكي ، يجلجل صوته فى أرجاء بيت الله الحرام ، وكان عمره حينها ست عشرة سنة .
ولنستمع إلى قصة أبي محذورة وهو يرويها بنفسه فيقول :
لما رجع النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- من حنين خرجت عاشر عشرة من مكة نطلبهم ، فسمعتهم يؤذنون للصلاة ، فقمنا نؤذن نستهزئ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم : ” لقد سمعت فى هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت ” ، فأرسل إلينا ، فأذنَّا رجلًا رجلًا ، فكنت آخرهم ، فقال حين أذنت : ” تعال ” ، فأجلسني بين يديه ، فخلع عمامتي ومسح على ناصيتي ، ثم قال : ” اللهم بارك فيه ، واهده إلى الإسلام ” ؛ فبارك عليَّ ثلاث مرات ، ثم قال : ” اذهب فأذِّن عند البيت الحرام “.
وفى رواية أخرى : فأرسل فى طلبنا ، فلما وقفنا بين يديه خفنا منه ، فكنت أكثر خوفًا .
وفى رواية يقول : فقمت ، ولا شىء أكره إليَّ من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا مما يأمرنى به ، فقمت بين يديه ، فألقى عليّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- التأذين هو بنفسه ، فقال : قل : الله أكبر الله أكبر .. فذكر الأذان ، ثم دعاني حين قضيت التأذين ، فأعطانى صرة فيها شىء من فضة ، ثم وضع يده على ناصيتي ، ثم من بين ثديي ، ثم على كبدي ، حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرتي ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ” بارك الله فيك ، وبارك الله عليك ” ، فقلت : يا رسول الله مُرني بالتأذين بمكة ، قال ” قد أمرتك به ” .. وذهب كل شىء كان فى نفسي لرسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- من كراهة ، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
أدرك أبو محذورة منذ ذلك الحين أن السخرية واللهو الذى هو سمة لكثير من الشباب لا يصنع رجالًا ولا ينفع الأمة ، فعاد إلى جادة الصواب وبحث عن دور حقيقي فى المجتمع ينفع به الناس ويُبلِّغ نداء الحق .
ومنذ ذلك اليوم أصبح مؤذنًا لمكة حتى مات .
– مقدمة رأسه :
اشتُهر عنه أنه لم يكن يحلق مقدمة رأسه ، وعندما سُئل عن ذلك قال : إن النبى صلى الله عليه وآله وسلم عندما علمَّه الأذان ، مسح على مقدمة رأسه ، فقال بعدها : « شعر مسه ذاك الكف ، والله لا أحلق هذا الشعر حتى أموت » ؛ فوصل شعره إلى نصف جسمه ، ولذلك كان يرده جذائل .
وظل يؤذن فى مكة إلى أنْ تُوفي سنة تسع وخمسين ، فبقي الأذان فى ولده وولد ولده بمكة ، وقيل : بقي الأذان فى ذريته إلى زمن الإمام الشافعي .
– اسمه :
قال أبو عمر : اتفق الزبير وعمه مصعب ومحمد بن إسحاق المسيبي على أن اسم أبي محذورة : أوس ، وهؤلاء أعلم بطريق أنساب قريش .. ومن قال في اسمه سلمة فقد أخطأ.
الأذان مرة أخرى : بعدما أسلم أبو محذورة ، أصبح ظاهرًا في الصورة ، بعدما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان ؛ فأذن بين يديه ، فأمره فانصرف إلى مكة ، وأقره على الأذان بها فلم يزل يؤذن بها هو وولده ، ثم عبدالله بن محيريز ابن عمه وولده ، فلما انقطع ولد ابن محيريز صار الأذان بها إلى ولد ربيعة بن سعد بن جمح .
وأبو محذورة وابن محيريز من ولد لوذان بن سعد بن جمح .
قال الزبير : كان أحسن الناس أذانًا وأنداهم صوتًا .
– في عهد الفاروق :
وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حين قدم مكة ، وسمع أذانه قال له :
ما أندى صوتك ! أما تخشى أن ينشق مريطاؤك من شدة صوتك ؟
قال : يا أمير المؤمنين ، قدمت ، فأحببت أن أسمعك صوتي .
قال : يا أبا محذورة إنك بأرض شديدة الحر ، فأبرد عن الصلاة ثم أبرد عنها ، ثم أذِّن ثم أقم ، تجدني عندك .
– الهجرة :
لم يهاجر أبو محذورة ، بل أقام بمكة إلى أن مات بعد موت سمرة بن جندب ، مات سنة 59 هـ ، وقيل : سنة 79 هـ .
– روايته للحديث :
روى أبو محذورة عدة أحاديث نبوية ، وحديثه في صحيح مسلم وغيره .
حدّث عنه ابنه عبد الملك وزوجته ، والأسود بن يزيد النخعي ، وعبدالله بن محيريز الجمحي ، وابن أبي مليكة ، وآخرون .