يوم الجمعة
” خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ” ؛ فالجمعة خير الأيام ، على مدار الأعوام ؛ فـ ” الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات ما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر “. (رواه مسلم)
يا سلام !!
تحية تقدير وإعظام ، إلى نبينا عالي المقام ، على هذا الكلام ، الصادر عنه عليه الصلاة وأزكى السلام .
قال الله تعالى في كتابه العزيز :
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ “. (الجمعة : 9-11)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله : ” إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ “. (الجمعة : 9)
المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يُفعَلُ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر ؛ فإنه كان حينئذٍ يُؤذَّن بين يديه ، فهذا هو المراد ، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فإنما كان هذا لكثرة الناس ، كما روى البخاري رحمه الله تعالى عن السائب بن يزيد قال : ” كان النداء يوم الجمعة أولُه إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان وكَثُر الناس ، زاد النداءَ الثالث على الزوراء ” ؛ يعني : يُؤذِّنُ على الدار التي تسمَّى الزوراء ، وكانت أرفع دار بالمدينة بقرب المسجد ، وذلك الذي يَحرُمُ عنده الشراء والبيع إذا نُودي به ، فأمر عثمان رضي الله عنه أن يُنادي قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس ، وإنما يُؤمر بحضور الجمعة الرجالُ الأحرار ، دون العبيد والنساء والصبيان ، ويُعذَرُ المسافِرُ والمريض وما أشبه ذلك من الأعذار كما هو مقرَّرٌ في كتب الفروع .
وقوله تعالى : ” وَذَرُوا الْبَيْعَ ” (الجمعة: 9) : أي : اسعوا إلى ذكر الله ، واتركوا البيع إذا نودي للصلاة ؛ ولهذا اتفق العلماء على تحريم البيع بعد النداء الثاني .
وقوله : ” فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ ” (الجمعة : 10) : أي : فُرِغ منها ” فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه ” (الجمعة : 10) ، لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع ، أَذِن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض ، والابتغاء من فضل الله .
ورُوِي عن بعض السلف أنه قال : ” مَن باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة ، بارك الله له سبعين مرة “.
وقوله تعالى : ” وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ” (الجمعة : 10) : أي : في حال بيعكم وشرائكم ، وأخذكم وإعطائكم اذكروا الله ذكرًا كثيرًا ، ولا تشغلنَّكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الآخرة ؛ ولهذا جاء الحديث : ” مَن دخل السوق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألفَ ألفَ حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة ، وبنى له بيتًا في الجنة “. (انظر صحيح الجامع للألباني : 6231)
وقوله تعالى : ” وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا [40] إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ” (الجمعة : 11) : يُعاتِبُ تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذٍ ، والنبي صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المنبر ، عن جابر قال : قدمتْ عيرٌ مرةً المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فخرج الناس ، وبقي اثنا عشر رجلًا ، فنزلت : ” وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا … “. (الجمعة : 11)
وقوله : ” قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ ” ؛ أي : الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة ” خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ” (الجمعة : 11) : أي : لمن توكَّل عليه ، وطلب الرزق في وقته .
قال الشيخ أبو بكر الجزائري :
لفظة ” الجُمعة ” : بضم كلٍّ من الجيم والميم ، وبتسكين الميم ، والجمع : جُمَع ، كغُرفة وغُرَف ، وجُمُعات كغُرُفات ، وكان يومها يسمَّى ( العَروبة ) بفتح العين ، وقيل : أول من سمَّاها الجمعة كعبُ بن لؤي ، وقيل : الأنصار ، وأول جمعة صُلِّيت في الإسلام هي الجمعة التي جمع فيها أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير أهلَ المدينة وصلَّوْها وكانوا اثني عشر رجلًا ، وأول جمعة صلاَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة هي جمعتُه في بني سالم بن عوف ، وهو في طريقه من قباء إلى المدينة ، وأول جمعة بعدها كانت بجُوَاثَى ( قرية من قرى البحرين ).
– خير يوم :
قال رسول الله ﷺ : ” خيرُ يومٍ طَلَعتْ فيه الشمسُ يومَ الجُمُعةِ ، فيه خُلِقَ آدَمُ ، وفيه أُهْبِطَ ، وفيه تِيبَ عليه ، وفيه قُبِضَ ، وفيه تقومُ الساعةُ ، ما عَلَى وجهِ الأرضِ من دابةٍ إِلَّا وهِيَ تُصْبِحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُصِيخَةً ؛ حتى تَطْلُعَ الشمسُ شَفَقًا من الساعةِ ؛ إِلَّا ابنُ آدمَ ، وفيه ساعةٌ لا يُصادِفُها عبدٌ مُؤمِنٌ وهُو في الصلاةِ يَسألُ اللهَ شيئًا إِلَّا أعطاهُ إِيَّاه “. (صححه الألباني)
– سنن يوم الجمعة :
- يغتسل .
- يبكر للجمعة .
- يدنو من الإمام .
- ينصت إلى الإمام ، ولا يتكلم مع أحد .
- يخرج ماشيًا .
– الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى : ” إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا “. (الأحزاب : 56)
قال رسول الله ﷺ : ” من صلى عَلَيَّ صلاة ، صَلَّى الله عليه بها عشرًا “. (رواه مسلم)
وقال ﷺ : ” إِنَّ مِنْ أَفضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْم الجُمُعَةِ ، فأَكثروا عليَّ مِنَ الصَّلاةِ فِيهِ ، فَإِنَّ صَلاتَكُمْ مَعْروضَةٌ عليَّ “. (انظر صحيح الجامع : 1209)
– يُغفَر له ما بين الجمعتين :
قال رسول الله ﷺ : ” لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَومَ الجُمُعَةِ ، ويَتَطَهَّرُ ما اسْتَطَاعَ مِن طُهْرٍ ، ويَدَّهِنُ مِن دُهْنِهِ ، أوْ يَمَسُّ مِن طِيبِ بَيْتِهِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ فلا يُفَرِّقُ بيْنَ اثْنَيْنِ ، ثُمَّ يُصَلِّي ما كُتِبَ له ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ ، إلَّا غُفِرَ له ما بيْنَهُ وبيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى “. (رواه البخاري)
– الدعاء وتحري ساعة الاستجابة :
الدعاء بين صلاتي العصر والمغرب مستجاب بإذن الله .
قال رسول الله ﷺ : ” إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم ، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا ، إلا أعطاه إياه ” ، وأشار بيده يقللها . (متفق عليه)
– القراءة في ركعتي الجمعة :
روى مسلم في صحيحِه عن ابنِ عبَّاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” كان يقرأُ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين “.
وروى أيضًا من حديث النعمان بن بشير أنه صلى الله عليه وسلم ” كان يقرأُ في الأولى بـ ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ ، وفي الثانية بـ ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ “.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : ” كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأُ في الجمعة في صلاة الفجر ﴿ الم * تَنْزِيلُ ﴾ السجدة ، ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ﴾ “.
– اسم ” الجمعة ” :
إنما سُميت الجمعة جمعة ؛ لأنها مشتقة من الجمع ؛ فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار ، وفيه كمل جميعُ الخلائقِ ، وفيه خُلِق آدمُ ، وفيه أُدخِل الجنة ، وفيه أُخرِج منها ، وفيه تقومُ الساعة ، كما ثبتت بذلك الأحاديثُ الصحاح ، وقد كان يقال له ( يوم العَروبة ) ، وثبت أن الأمم قبلنا أُمروا به ، فضلُّوا عنه ، واختار اليهود يومَ السبت الذي لم يقع فيه خلقُ آدم ، واختار النصارى يومَ الأحد الذي ابتُدِئ فيه الخلق ، واختار الله لهذه الأمة يومَ الجمعة الذي أكملَ اللهُ فيه الخليقة .
وشُرع اجتماع المسلمين فيه ؛ لتنبيههم على عظم نعمة الله عليهم ، وشُرعت فيه الخطبة ؛ لتذكيرهم بتلك النعمة ، وحثِّهم على شكرها ، وشُرِعتِ الصلاة في وسط النهار ؛ ليتمَّ الاجتماع في مسجد واحد ، وأمر الله المؤمنين بحضور ذلك والاجتماع لسماع الخطبة وإقامة تلك الصلاة ، قال تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ … “. (الجمعة : 9)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ” كان مِن هدي النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمُ هذا اليوم ، وتشريفُه ، وتخصيصه بعبادات يختصُّ بها عن غيره ، وقد اختلف العلماء : هل هو أفضل من يوم عرفة ؟ على قولين ، هما وجهان لأصحاب الشافعي ، وكان يقرأ في فجره بسورتي ﴿ الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ ﴾ السجدة ، و﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ﴾ ، إلى أن قال : ” وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : ” إنما كان النبي يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة ؛ لأنهما تضمنتا ما كان يكون في يومها ؛ فإنهما اشتملتا على خلق آدم ، وعلى ذكر المعاد ، وحشر العباد ، وذلك يوم الجمعة .
– من خصائص يوم الجمعة :
1- استحباب كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي ليلته ؛ لقوله : ” أكثروا الصلاة عليَّ يوم الجمعة ؛ فمن صلى عليَّ صلاةً ، صلَّى الله عليه عشرًا “.
2- الأمر بالاغتسال فيه ، وهو سُنة مؤكدة ، ومن العلماء مَن يُوجِبُه في حق من به رائحة يحتاج إلى إزالتها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ” غسلُ الجمعة واجب على كلِّ محتلم ” ، وقوله : ” مَن توضأ يوم الجمعة فبها ونعمتْ ، ومَن اغتسل فالغسل أفضل “.
وغسل الجمعة يمتد وقته من طلوع الفجر إلى الظهر ، ونقل الزرقاني في شرح الموطأ ج1 ص : 190 عن ابن عبد البر قال : ” ليس المراد أنه واجب فرضًا ، بل هو مؤول ؛ أي : واجب في السنة ، أو في المروءة ، أو في الأخلاق الجميلة ؛ كما تقول العرب : ( وجَب حقُّك ) ، ثم أخرج بسنده عن أشهب أن مالكًا رحمه الله سُئِل عن غسل يوم الجمعة : أواجبٌ هو ؟ قال : هو حسن ، ليس بواجب .
3- ومن أعظم خصائص يوم الجمعة : صلاة الجمعة التي هي آكد فروض الإسلام ، ومن أعظم مجامع المسلمين ، وجاء الترهيب في التفريط فيها بقوله صلى الله عليه وسلم : ” مَن ترك ثلاثَ جُمَع تهاونًا بها ، طبع الله على قلبه ” ، وقال : ” مَن ترك ثلاث جمعات من غير عذر، كُتِب من المنافقين “.
4- استحباب التطيب فيه ، وهو أفضل من الطيب في غيره من أيام الأسبوع .
5- استحباب التبكير إلى المسجد لصلاة الجمعة .
6- الاشتغال بصلاة النافلة ، والذكر ، والقراءة حتى يخرج الإمام للخطبة ، ووجوب الإنصات للخطبة إذا سمعها ، فإن لم ينصت للخطبة كان لاغيًا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ” مَن قال : صَهْ ، فقد تكلَّم ، ومَن تكلم فلا جمعةَ له ” ، وقوله : ” مَن مسَّ الحصى فقد لغا ” ، وتحريم الكلام وقتَ الخطبة ، ففي المسند مرفوعًا : ” والذي يقول لصاحبه : أنصت ، فلا جمعة له “.
7- أن بها ساعة إجابة ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إن في الجمعة ساعة لا يُوافِقُها عبدٌ مسلم وهو قائم يصلي ، يسأل الله منها خيرًا ، إلا أعطاه الله إياه “.
8- أن فيه الخطبة التي يُقصَدُ بها الثناء على الله وتمجيده ، والشهادة له بالوحدانية ، ولرسوله بالرسالة ، وتذكير العباد .
9- ويُستحبُّ التبكير في الذَّهاب إلى صلاة الجمعة ، فإذا دخل المسجد صلَّى تحيَّة المسجد ركعتين ؛ لحديث : ” مَن اغتسل يوم الجمعة ، ثم راح في الساعة الأولى ، فكأنما قرَّب بَدَنة ، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة ، ومَن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرنَ ، ومَن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة ، ومَن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضةً ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذِّكر “.
وخصائص يوم الجمعة كثيرة ، ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه ” زاد المعاد ” ، فأَوصلَها إلى ثلاث وثلاثين ومائة ، ومع هذا يَتساهَلُ كثيرٌ من الناس في حق هذا اليوم ، فلا يكون له مزيَّة على غيره من الأيام ، والبعض الآخر يجعل هذا اليوم وقتًا للتكاسل والنوم ، والبعض يضيعه في اللهو واللعب والغفلة عن ذكر الله ، حتى إنه لينتقص عدد المصلين في المساجد في فجر ذلك اليوم نقصًا ملحوظًا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله !
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ” ولهذا كان جماهيرُ الأئمة متَّفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنَّة مؤقتة بوقت ، مقدَّرة بعدد ، والصلاة قبل الجمعة حسنة ، وليست بسنة راتبة ، وإن فعل أو ترك لم يُنكَرْ عليه ، وهذا أعدل الأقوال ، وحينئذٍ يكون الترك أفضل إذا اعتقد الجهال أنها سنة راتبة “.
هذا ما يتعلَّقُ بصلاة النافلة قبل صلاة يوم الجمعة ، فليس لها سنة راتبة قبلها ؛ وإنما راتبتها بعدَها ، ففي صحيح مسلم : ” إذا صلَّى أحدكم الجمعة ، فليصل بعدها أربعًا “.
وفي الصحيحين : ” أنه صلى الله عليه وسلم كان يُصلِّى بعدَ الجمعة ركعتين “.
والجمع بين الحديثين أنه صلى الله عليه وسلم إن صلَّى في بيته صلَّى ركعتين ، وإن صلى في المسجد صلَّى أربعَ رَكَعات .
المزيد .. لمن يريد :
– من أحكام يوم الجمعة :
1- أن مَن دخل المسجد والإمامُ يخطب لم يجلس حتى يُصلِّي ركعتين ، ويوجز فيهما ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ” إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام ، فليصلِّ ركعتين ” ، وزاد مسلم : ” ولْيَتجوَّزْ فيهما ” ؛ أي : يُسرِعْ ؛ فإن جلَس قام فأتى بهما ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ الرجل الذي جلس قبل أن يُصلِّيهما ، فقال له : ” قم فاركع ركعتين “.
2- أنه لا يجوز الكلام والإمام يخطب ؛ لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ” إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة : أنصِتْ ، والإمام يخطب ، فقد لغوتَ ” ؛ أي : قلتَ اللَّغْوَ ، واللغو : الإثمُ ، فإذا كان الذي يقول للمتكلم : أنصت ، وهو في الأصل يأمر بالمعروف ، قد لغا ، وهو منهيٌّ عنه ، فغير ذلك من الكلام من باب أولى .
3- يجوزُ للإمام أن يُكلِّم بعض المأمومين حال الخطبة ، ويجوز لغيره أن يكلمه لمصلحة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلَّم سائلًا ، وكلَّمه هو ، وتكرر ذلك في عدة وقائع .
4- لا يجوز لمن يستمع الخطبة أن يتصدَّق على السائل وقت الخطبة ؛ لأن السائل فعل ما لا يجوز فعلُه ، فلا يعينه على ما لا يجوز فعله ؛ وهو الكلام حال الخطبة .
5- تُسنُّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها من الخطيب ، ولا يرفع صوتَه بها ؛ لئلا يشغَلَ غيرَه بها .
6- يُسنُّ أن يُؤمِّن على دعاء الخطيب بلا رفع صوته ولا يديه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ” ورَفْعُ الصوت قُدَّام الخطيب مكروه أو محرم اتِّفاقًا ، ولا يرفع المؤذن ولا غيره صوته بصلاة ولا غيرها ” ا.هـ ؛ (الفتاوى ج22 ص : 469) .
7- ومَن دخل والإمام يخطب ، فإنه لا يُلقي السلام ، بل ينتهي إلى الصف بسكينة ، ويصلى ركعتين خفيفتَيْنِ -كما سبق- ويجلس لاستماع الخطبة ، ولا يصافح مَن بجانبه .
8- لا يجوز له العبث حال الخطبة بيدٍ ، أو رجلٍ ، أو لحية ، أو ثوب ، أو غير ذلك ، وكذا لا ينبغي له أن يلتفت يمينًا وشمالاً ، ويشتغل بالنظر إلى الناس أو غير ذلك ؛ لأن ذلك يشغله عن الاستماع للخطبة ، ولكن ليتَّجِهْ إلى الخطيب كما كان الصحابة يتجهون إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال الخطبة ، وإذا عطس فإنه يَحمَدُ الله سرًّا بينه وبين نفسه .
9- صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم ، ذكَرٍ ، حرٍّ ، مكلَّف ، مستوطنٍ ، روى أبو داود بسنده عن طارق بن شهاب مرفوعًا : ” الجمعةُ حقٌّ واجب على كلِّ مسلم في جماعة ، إلا أربعة : عبدٌ مملوك ، أو امرأةٌ ، أو صبي ، أو مريض “.
10- لا تجبُ الجمعة على مسافر سفرَ قصرٍ ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره فلم يُصلِّ أحدٌ منهم الجمعة في السفر ، ولا تجب على المرأة ، قال ابن المنذر وغيره : ” أجمعوا على أنْ لا جمعةَ على النساء ، وأجمعوا على أنهنَّ إذا حضرْنَ الإمامَ ، فصلَّيْنَ معه أن ذلك يجزي عنهن “.
– ما يشترط لصحة الجمعة :
1- دخول الوقت : لأنها صلاة مفروضة ؛ فاشتُرِط لها دخولُ الوقت كبقية الصلوات ، فلا تصحُّ قبلَ وقتها ولا بعده ، وأداؤها بعد الزوال أفضل وأحوط ؛ لأنه الوقت الذي كان يُصليها فيه رسول الله في أكثر أوقاته ، وأداؤها قبلَ الزوال محلُّ خلاف بين العلماء ، وآخر وقتها آخرُ وقت صلاة الظهر بلا خلاف .
2- أن يكون المصلون مستوطِنين بمساكن مبنيَّة بما جرت العادة بالبناء به ، فلا تصح من أهل الخيام وبيوت الشعَر الذين ينتجعون في الغالب مواطن القَطر ، وينقلون بيوتهم ، فقد كانت قبائل العرب حول المدينة ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الجمعة .
ومَن أدرك مع الإمام من صلاة الجمعة ركعةً ، أتمَّها جمعة ؛ لحديث أبي هريرة مرفوعًا : ” مَن أدرك ركعة من الجمعة ، فقد أدرك الصلاة ” ، وإن أدرك أقلَّ من ركعة بأن رفع الإمام رأسه من الركعة الثانية قبل دخوله معه ، فاتته صلاة الجمعة ، فيدخل معه بنية الظهر ، فإن سلم الإمام أتمَّها ظهرًا .
3- ويشترط لصحة صلاة الجمعة تقدُّمُ خطبتين ؛ لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما ، وقال ابن عمر : ” كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتَيْنِ وهو قائم ، يفصل بينهما بجلوس “.
ومن شروط صحتهما : حمدُ الله تعالى ، والشهادتان ، والصلاة على رسول الله ، والوصية بالتقوى والموعظة ، وقراءة شيء من القرآن ولو آية ، بخلاف ما عليه خطب بعض المعاصرين اليوم من خلوِّها من هذه الشروط -أو غالبها- فبعضُ الخطباء -أو كثير منهم- يجعل الخطبة كأنها موضوع إنشاء مدرسي ، يرتجل فيه ما حضره من الكلام بمناسبة وبدون مناسبة ، ويطيل الخطبة تطويلاً مُملاًّ ، حتى إن بعضهم يُهمِلُ شروط الخطبة أو بعضها ، ولا يتقيَّدُ بضوابطها الشرعية ، فهبطوا بالخطب إلى هذا المستوى الذي لم تَعُدْ معه مؤديةً للغرض المطلوب من التأثير والإفادة .
وبعض الخطباء يُقحِمُ في الخطبة مواضيعَ لا تتناسب مع موضوعها ، وليس من الحكمة ذكرُها في هذا المقام ، وقد لا يفهمها غالب الحضور ؛ لأنها أرفعُ من مستواهم ، فيدخلون فيها المواضيع الصحفية ، والأوضاع السياسية ، وسردَ المُجرَيات التي لا يستفيد منها الحاضرون .
فيا أيها الخطباء ، عودوا بالخطبة إلى الهدي النبوي ” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ” (الأحزاب : 21) ، ركِّزوا مواضيعها على نصوص من القرآن والسنة التي تتناسب مع المقام .
ضمِّنوها الوصية بتقوى الله ، والموعظة الحسنة ، عالجوا بها أمراض مجتمعاتكم بأسلوب واضح مختصر ، أَكْثروا فيها من قراءة القرآن العظيم الذي به حياة القلوب ونور البصائر .
ولا تحصل الخطبةُ باختصار يفوِّتُ المقصود ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه ، وعلا صوتُه ، واشتدَّ غضبُه حتى كأنه منذرُ جيش ، يقول : صبَّحكم ومسَّاكم .
وذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى : أنه يُسنُّ في خطبتَيِ الجمعة أن يُخطَبَ على المنبر ؛ لفعله عليه الصلاة والسلام ؛ ولأنه أبلغ في الإعلام والوعظ حينما يشعر الحضور بالخطيب أمامهم .
• ويُسنُّ أن يسلِّم الخطيب على المأمومين إذا أقبل عليهم بوجهه ؛ لقول جابر رضي الله عنه : ” وكان رسول الله إذا صعد المنبر سلَّم”.
• ويُسن أن يجلس على المنبر إلى فراغ المؤذن ، وأن يجلس بين الخطبتين ، ومن سننها أن يخطب قائمًا ؛ لفعل الرسول ﷺ ؛ ولقوله تعالى : ” وَتَرَكُوكَ قَائِمًا “. (الجمعة : 11)
• ويُسنُّ أن يعتمد على عصا ونحوها ، ويُسنُّ أن يقصد تلقاءَ وجهه ؛ لفعله صلى الله عليه وسلم ، ولأن التفاتَه إلى أحد جانبيه إعراض عن الآخر ومخالفةٌ للسنة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصد تلقاء وجهه في الخطبة ، ويستقبله الحاضرون بوجوههم ، ويُسنُّ له أن يقصر الخطبة تقصيرًا معتدلاً ؛ بحيث لا يَملُّون وتنفر نفوسهم ، ولا يقصرها تقصيرًا مُخلاًّ فلا يستفيدون منها ، روى مسلم عن عمار مرفوعًا : ” إن طولَ صلاة الرجل وقِصَرَ خطبتِه مَئِنَّةٌ من فقهه ، فأطيلوا الصلاة ، وأقصروا الخطبة ” ؛ ومعنى قوله : ” مَئِنَّةٌ من فقهه ” ؛ أي : علامة على فقهه .
• ويسنُّ أن يلقيَها بعبارات واضحة قوية مؤثِّرة ، وبعبارات جزلة ، ويسن أن يدعوَ للمسلمين بما فيه صلاح دينهم ودنياهم ، ويدعو لإمام المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والتوفيق ، وكان الدعاء لولاة الأمور في الخطبة معروفًا عند المسلمين وعليه عملهم ؛ لأن الدعاء لولاة أمور المسلمين بالتوفيق والصلاح من منهج أهل السنة والجماعة ، وتركه من منهج المبتدعة .
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : ” لو كان لنا دعوة مستجابة ، لدعونا بها للسلطان ؛ لأن في صلاحه صلاح الدين “.
وقد تُركت هذه السنة حتى صار الناس يستغربون الدعاء لولاة الأمور ، ويسيئون الظن بمن يفعله .
• ويسن إذا فرغ من الخطبتين أن تُقام الصلاة مباشرة ، وأن يشرع في الصلاة من غير فصل طويل .