ورقة بن نوفل :
هو ورقة لامعة بين الأوراق .
أشرقت في زمانها أيما إشراق .
سيرته تسير مسير الضوء في الآفاق .
سبحان الله الملك مُوَزِّع الأرزاق .
– النبي وخديجة وورقة :
عندما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم للمرة الأولى وكان يتعبد في غار حراء ، قال له جبريل عليه السلام : اقرأ ، وقام بإعادتها ثلاث مرات ، وكان جبريل عليه السلام يقوم بضم النبي صلى الله عليه وسلم ضمة قوية في كل مرة ، مما أجهده -بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم ، وعندما تركه جبريل عليه السلام ، عاد إلى بيته خائفًا مضطربًا ؛ فكانت السيدة خديجة رضي الله عنها له بمثابة السكن والطمأنينة ، فطمأنته وأخبرته بأن الله تعالى لا يضيعه أبدًا ؛ لما يقوم به من أعمال البر والخير التي يسعى بها إلى الناس ، بل ذهبت رضي الله عنها وأرضاها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، وقصت عليه ما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فرَدَّ عليها ورقة بن نوفل قائلًا :
” قُدّوسٌ قُدّوس ، والذي نفس ورقة بيده إن كنت صدقتني يا خديجة ، لقد جاءه النّاموس الأكبر الذي كان يأتي لـ موسى عليه السّلام ، وإنّه لنبيّ هذه الأمّة ، فقولي له : فليثبت ”.
عادت السيدة خديجة رضي الله عنها مرة أخرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما أخبرها به ورقة بن نوفل ، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم للقاء ورقة بن نوفل ، وقص عليه ما حدث مرة أخرى وما حصل معه في الغار .
وبعدما سمع ورقة ما حدث مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم مرة أخرى ، قال له : إن ما أتاه هو الناموس الأكبر ، وهو الذي جاء إلى موسى عليه السلام ؛ وأنه بذلك هو نبي هذه الأمة .
ثم قال له إنه سيتعرض للأذى والابتلاء ، وسيخرج من مكة المكرمة .
وأكد ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون معه وسينصره .
- وقد ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ” … ثمَّ لم يَنْشَبْ ورقةُ أنْ تُوُفِّيَ ، وَفَتَرَ الوحْيُ فَتْرَةً ، حتى حَزِنَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ” ، فهو سرعان ما تُوفى بعد تبشيره للنبي صلى الله عليه وسلم بنبوته .. وبعض الروايات تذكر أن وفاة ورقة بن نوفل كانت بعد أن بشّر النبي بيوم أو يومين فقط .
– إضـــاءة :
هيا لنلقي الضوء على هذه الشخصية التاريخية المهمة في التاريخ الإسلامي :
هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، زوج النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث إن أباه نوفل بن أسد هو أخٌ لأبيها خويلد بن أسد .
وهو شخصية تاريخية معروفة ، ورد ذكره في مؤلفات كثيرة عند المؤرخين المسلمين ، اتفق معظمها أنه كان يقرأ التوراة والإنجيل ، وأنه كان حنيفيًا مُوَحِّدًا في عصر ما قبل الإسلام .
– على ملة إبراهيم :
ومما يدل على اعتناق ورقة للتوحيد قوله لبعض أصحابه الذين رفضوا ترك عبادة الأصنام :
« تعلمون ، والله ما قومكم على دين ، ولقد أخطأوا الحجة ، وتركوا دين إبراهيم ما حجر تطيفون به ؟ لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضرُّ .. يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين ».
ومن هذا يتضح أن ورقة كان على دين إبراهيم ، ويدعو أصحابه أن يُثنوا أقوامهم عن عبادة الأصنام .
– إقراره بنبوة محمد :
بعد نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم استدعي ورقة بن نوفل لبيت خديجة رضي الله عنها ، فأقر للنبي محمد بالنبوة ، وقال له : ” هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى “.
ثم لم ينشب ورقة إلى أن تُوفي خلال بدايات ظهور دين الإسلام .
– إسلامه :
قال السهيلي في الروض الأنف : ” ورقة قد ثبت إيمانه بمحمد ”.
ويقول ابن القيم في زاد المعاد : ” وأسلم القس ورقة بن نوفل ، وتمنى أن يكون جذعًا إذ يخرج رسول الإسلام قومه “.
وفي جامع الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه في هيئة حسنة .
وفي حديث آخر أنه رآه في ثياب بيض .
– أحد أربعة :
ورقة بن نوفل هو أحد الأربعة الذين اجتمعوا في يوم احتفال قريش بصنم من أصنامهم وتحدثوا فيما بينهم ، واجتمعت كلمتهم على أن قريشاً انحرفت عن دين إبراهيم عليه السلام ، وأنه لا معنى لعبادة الأصنام ، وانطلقوا يبحثون عن دين إبراهيم الصحيح .
وهؤلاء هم : ورقه بن نوفل ، وعبيد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو بن نفيل .
فأما ورقة فهو قد تنصر وقرأ ما وجد من كتب الأقدمين فاستقر على النصرانية وكان من علمائها .
وأما عثمان بن الحويرث فتنصر وذهب إلى قيصر فأقام عنده حتى هلك .
وأما زيد بن نفيل فكان بمكة متمسكًا بما يظن أنه دين إبراهيم الصحيح حتى توفي .
وأما عبيد الله بن جحش فأدرك الإسلام وأسلم وهاجر إلى الحبشة بزوجته -أم المؤمنين فيما بعد- رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها ، فارتد هناك وتنصر إلى أن هلك .
وبعدما أكرم الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرسالة كان ورقة شيخًا كبيرًا قد عمي -كما قال الذهبي – فذهبت إليه خديجة فأخبرته بما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء ، وكيف جاءه جبريل عليه السلام كما أخبرها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم ذِكر ذلك الأمر .
وروى الترمذي عن عائشة قالت : سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ورقة ، فقالت له خديجة : إنه كان صدقك ، وإنه مات قبل أن تظهر ، فقال : ” رأيته في المنام وعليه ثياب بيض ، ولو كان من أهل النار لرأيت عليه ثيابًا غير ذلك “.
وعن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” رأيت لورقة جنة أو جنتين “.
وعلى هذا فيكون ورقة رضي الله عنه هو أول من صدّق بعد خديجة رضي الله عنها .
وهذه المعلومات متوفرة بتفصيل أكثر في كتب السيرة والسنة والتفسير ؛ وخاصة السيرة النبوية لابن هشام ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ، والبداية والنهاية لابن كثير ، وغيرهم .
– حوار الثلاثي :
للمرة الثانية نأتي إلى حوار الثلاثي ( النبي محمد وخديجة وورقة ) بعد الوحي ..
َقَال وَرَقَةُ للنبي محمد صلى الله عليه وسلم : يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟
فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -خَبَرَ مَا رَأَى .
فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟
قَالَ : نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا .
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ .
- جاء في كتاب المستدرك على الصحيحين لمحمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ” لا تسبوا ورقة ؛ فإني رأيت له جنة أو جنتين “.
- وجاء في سنن الترمذي : سُئلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلِيهِ وسَلَّم عن ورقَةَ ، فقالت لهُ خديجةُ إنَّهُ كان صدَّقَكَ وإنَّهُ ماتَ قبلَ أن تظهَرَ ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلِيهِ وسَلَّم : ” أريتُهُ في المنامِ وعليهِ ثيابُ بياضٍ ، ولو كانَ من أهلِ النَّارِ لكانَ عليهِ لباسٌ غيرُ ذلكَ “.
- وجاء في مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي و في معجم الطبراني الكبير : عن أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ورقة بن نوفل فقال : ” يُبعث يوم القيامة أمة وحده “.
– الكتاب العبراني :
- جاء في ( صحيح البخاري ) أن ورقة كان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء أن يكتب .
- كما ورد في ( صحيح مسلم ) أن ورقة كان يكتب الكتاب العربيَّ ، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتُب .
- وأورد أبو الفرج الأصفهاني في كتابه ( الأغاني ) أن ورقة تنصَّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب .
وقد تتبَّع الكُتُب ، وعَلِمَ مِنْ عِلْم النَّاس ، وسَمِعَ من أهل التوراة والإنجيل .
– شِعره :
ويُقال : إن لورقة شعرًا سَلَكَ فيه مسلك الحكماء ، ومنه :
يا للرِّجالِ لصرف الدَّهرِ والقدرِ … وما لشيءٍ قضاهُ اللهُ من غيرِ
حتَّى خديجةُ تدعوني لأخبرَها … وما لها بخفيِّ الغيبِ منْ خبرِ
فخبَّرتْني بأمرٍ قد سمعْتُ بهِ … فيما مضى من قديمِ الدَّهرِ والعصرِ
بأنَّ أحمدَ يأتيهِ فيخبرُهُ … جبريلُ أنَّكَ مبعوثٌ إلى البشرِ
ومنه أيضًا :
لججْتُ وكنتُ في الذِّكرى لجوجًا … لهَمٍّ طالما بعثَ النَّشيجا
بما خبَّرَتْنا من قولِ قسٍّ … من الرُّهبان أكرهُ أنْ يعوجا
بأنَّ محمدًا سيسودُ قومًا … ويخصمُ مَنْ يكونُ لهُ حجيجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكُم … شهدْتُ فكنْتُ أوَّلَهم ولوجا
– وفاته :
كان ورقة بن نوفل هو آخر من مات من أهل الفترة ، ودُفِنَ بالحَجون .
وكان دائمًا ما يقول : “ اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ، ولكني لا أعلم ، ثم يسجد على راحته ”.
مات ورقة بن نوفل في فترة الوحي ، بعد النبوة ، وقبل الرسالة ، نحو 12 قبل الهجرة الموافق 611 م ، وقد اختلف المؤرِّخون على أيِّ دين مات ؟
فقال بعضهم : مات على النصرانية ، وقال آخرون : مات مُوَحِّدًا على دين عيسى وموسى عليهما السلام ، وقال غيرهم : مات على الإسلام .
جاء في ( مروج الذَّهب ) للمسعودي : ثمَّةَ من يزعُم أنّ ورقة بن نوفل ، مات نصرانيًّا ولم يُدرِك ظهور النَّبي صلى الله عليه وسلَّم ، ولم يتيسَّر له أمره ، وثمَّة من رأى أنَّه مدَحَ النبيَّ محمدًا صلى الله عليه وسلَّم فقال :
يَعْفُـــو ويَـصْفَـــحُ لا يَجْــزِي بِسَــيِّئَــةٍ … ويَكْـظـمُ الغَيْــظَ عِندَ الشَّـتْمِ والغَضَـبِ
– سؤال وجواب :
- السؤال :
أريد أن أعرف إذا كان ورقة بن نوفل صحابيًّا أم لا ؟
- الجواب :
الحمد لله ..
ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي ، ابن عم السيدة خديجة رضي الله عنها زوج النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، مختلف في صحبته :
1- فمن العلماء من ذكره في الصحابة كالطبري والبغوي وابن قانع وابن السكن وغيرهم -كما في ( الإصابة ) (6 /607)- .
وقال الزركلي رحمه الله : وفي المؤرخين من يعده في الصحابة ، قال البغدادي : ألف أبو الحسن برهان الدين إبراهيم البقاعي تأليفًا في إيمان ورقة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وصحبته له ، سماه : ” بذل النصح والشفقة ، للتعريف بصحبة السيد ورقة “.
( انتهى من ( الأعلام ) (8 /115) ).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” الظاهر لي والله أعلم أنه يعد صحابيًّا ، فيترضى عنه “. (انتهى)
وسئل الشيخ صالح الفوزان : ” ما هو الأولى بحق ورقة بن نوفل إذا ذكر هل يترضى عليه ؟
فأجاب حفظه الله : ” بلا شك ، نعم هو صحابي يُترضى عنه “. (انتهى)
وعلى ذلك القول : يكون ورقة بن نوفل هو أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” ولهذا نقول : أول من آمن به من النساء خديجة ، ومن الرجال ورقة بن نوفل “.
( انتهى من ( مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين ) (8 /613) ).
2- ومن العلماء من قال : إنه ليس صحابيًّا ، ولكنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ومات في فترة الوحي .
قال ابن كثير رحمه الله : ” وتقدم الكلام على إيمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحي ، ومات في الفترة رضي الله عنه “. (انتهى من ( البداية والنهاية ) (3 /25))
وقد ذكر الذهبي حديث عروة أنه قال : ” مر ورقة بن نوفل على بلال وهو يعذب ، يلصق ظهره بالرمضاء وهو يقول : أحدٌ أحد ، فقال ورقة : أحِّدْ أحِّدْ يا بلال ، صبرًا يا بلال ، لِمَ تعذبونه ؟ فوالذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حنانًا “.
ثم قال الذهبي : ” هذا مرسل ، وورقة لو أدرك هذا لعد من الصحابة ، وإنما مات الرجل في فترة الوحي بعد النبوة وقبل الرسالة ، كما في الصحيح “. (انتهى من ( سير أعلام النبلاء ) (1 /129))
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد أن ذكر حديث بدء الوحي : ” فهذا ظاهره أنه أقر بنبوته ، ولكنه مات قبل أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام ، فيكون مثل بحيرا ، وفي إثبات الصحبة له نظر “.
( انتهى من ( الإصابة ) (6 /607) ).
3- ومنهم من توقف فيه وذكر الخلاف .
قال ابن منده : ” اختُلِف في إسلامه ، روى عنه عبدالله بن عباس ، ولا أعرف من قال إن ورقة أسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع بإسلامه ، وعبدالله بن عباس لم يسمع منه “.
( انتهى من ( تاريخ دمشق ) (63 /4) ).