نقض الصحيفة وفك الحصار

نقض الصحيفة وفك الحصار :

( ٤٩ )الحلقة التاسعة والأربعون من سيرة الحبيب ﷺ :

تعالوا نبدأ الكلام بالصلاة والسلام على خير الأنام وعلى آله وصحبه الكرام .

تكلمنا في الحلقة الماضية عن استمرار حصار النبي صلى الله عليه وسلم ، مع أهله من بني هاشم وبني عبد المطلب ، في شِعب أبي طالب .

وعرفنا كيف ساءت ظروف النساء والأطفال والمرضى والعجائز وغيرهم نظرًا لما تعرضوا له من تجويع وتضييق لمدة تقارب الثلاث سنوات .

ورأينا كيف حاول هشام بن عمرو السعي لفك ذلك الحصار الظالم ، على الرغم من كونه مشركًا ، فقام بالاتفاق مع أربعة من أصدقائه القرشيين الشرفاء المتعاطفين مع إخوانهم في الشِّعب ، وهم زهير بن أبي أمية ، المُطعِم بن عدي ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، فصاروا خمسة رجال ، وتعاهدوا على نقض الصحيفة التي تنص على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب حتى يُسلِموا النبي صلى الله عليه وسلم للقتل .

فماذا فعل هؤلاء الرجال الخمسة لنقض الصحيفة ؟

قال زهير : أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم .
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم ، وغدا زهير عليه حُلَّة ( أي ثوب جيد ) ، فطاف بالبيت سبعًا ، ثم أقبل على الناس ، فقال : يا أهل مكة ، أنأكل الطعام ، ونلبس الثياب ، وبنو هاشم هلكى ، لا يبتاعون ولا يُبتاع منهم ؟ والله ، لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل ، وكان في ناحية المسجد : كذبت ، والله لا تُشَقُّ .
فقال : زمعة بن الأسود : أنت والله أكذب ، ما رضينا كتابتها حيث كتبت .
قال أبو البختري : صدق زمعة ، لا نرضى ما كتب فيها ولا نُقِرُّ به .
وقال المطعم بن عدي : صدقتما ، وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها .
وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك .
فقال أبو جهل : هذا أمر قد قُضِيَ بليل ، تشاوروا فيه بغير هذا المكان .
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد .
إنما جاءهم لأن الله كان قد أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر الصحيفة ، وأنه أرسل عليها الأَرَضة ( وهي نوع من أنواع الحشرات تأكل الخشب ) ، فأكلت جميع ما فيها من جَور وقطيعة وظلم ، ولم يبق بها إلا ذكر الله عز وجل ، فأخبر بذلك عمه ، فخرج إلى الحرم ليخبر قريش بما أخبره ابن أخيه صلى الله عليه وسلم .
فلما رأى أبو طالب ما حدث ، قام إليهم فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا ، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه ، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا .
فقال زعماء قريش في المسجد الحرام : قد أنصفت يا أبا طالب .. وذهبوا إلى الصحيفة في جوف الكعبة ، فإذا هي تمامًا كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أُكلت بكاملها إلا ما كان فيها من اسم الله تعالى : ” باسمك اللهم ” ، ظلت آية واضحة !!

وهنا لم يعد أمام زعماء مكة أي خيار ، لم يجدوا بُدًّا من نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة بعد ثلاث سنوات كاملة كانت قد مرت من الحصار والتجويع .

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشِّعب ، وانتهى الحصار .

وقد رأى المشركون آية عظيمة من آيات نبوته صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم كما أخبر الله تعالى عنهم : ” وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ “.

أعرضوا عن هذه الآية وازدادوا كفرًا إلى كفرهم .

ولم يَضِع مجهود هشام بن عمرو مع أنه كان كافرًا ، فقد أسلم هشام بن عمرو بعد ذلك ، بعد فتح مكة ، بعد أكثر من عشر سنين من هذه القصة .. كما أسلم زهير بن أبي أمية أيضًا ، أما الثلاثة الباقون فماتوا على الكفر ، والعياذ بالله .

ولقد شاء الله عز وجل أن يتأخر خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الشِّعب إلى ثلاث سنوات ، وكان من الممكن أن يقع بعد فترة وجيزة جدًا من الحصار كشهر أو اثنين أو ثلاثة ، لكن كان لابد من هذا التأخير ، ليخرج المؤمنون من هذا الحصار أشد شكيمة ، وأعمق إيمانًا وأقوى تمسكًا بدينهم وعقيدتهم ، لقد تعرض المؤمنون لابتلاء شديد ونجحوا فيه .

فلابد أن يثبت الصادقون صدقهم بالتعرض للبلاء والثبات على الحق ، يقول الله تعالى : ” أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ “. (سورة الرعد)

لابد أن يُصهر المؤمنون في نار الابتلاء ؛ للتنقية وللتربية وللتزكية ، للتنقية من المنافقين والكاذبين ، وللتربية على الثبات والتضحية في سبيل الله ، وللتزكية وتطهير النفوس من الذنوب والخطايا ؛ لذلك كان هناك حصار وهجرة للحبشة ، وإيذاء وتعذيب .. كل هذه مراحل تربوية في غاية الأهمية صنعت جيلًا من الصحابة ، يستطيع أن يلقى الأهوال ولا تلين له قناة ، ولا تخور له عزيمة ، ولا يهتز له قلب ولا عقل ولا جارحة .

وقد حدثت للمسلمين بعد الخروج من الشِّعب مصيبتان كبيرتان في وقت محدود ، فما هما هاتان المصيبتان ؟

سنعرف في الحلقة القادمة إن شاء الله .

ونختم بخير ختام وهو الصلاة والسلام على نبينا الأمين وآله وصحبه الكرام .

ندعوكم لقراءة : مقدمة سيرة الحبيب ﷺ

Exit mobile version