من نوادر أبي العيناء
من نوادر أبي العيناء :
هو محمد بن القاسم بن خلاد بن ياسر الهاشمي ، بالولاء .
اشتهر بكنيته ، فهو أبو العيناء .
وهو أديب فصيح من الظرفاء ، ومن أسرع الناس جوابًا ؛ فهو من الأذكياء .
اشتهر بنوادره ولطائفه ، وكان ذكيًّا جدًّا ، حسن الشعر ، مليح الكتابة والترسل ، خبيث اللسان في سب الناس والتعريض بهم .
كُفَّ بصره بعد بلوغه أربعين سنة من عمره .
أصله من اليمامة ، ومولده بالأهواز ، ومنشأه ووفاته في البصرة .
( 191هـ / 719م – 283هـ / 896م ).
شاعر من العصر العباسي الأوَّل ، عُرِف بالفصاحة والظرافة ، وتُروَى عنه نوادر كثيرة .
- قال الإمام الذهبي عنه في السير :
العلامة ، الأخباري أبو العيناء ، محمد بن القاسم بن خلاد البصري ، الضرير النديم .
وُلد بالأهواز ، ونشأ بالبصرة .
أخذ عن : أبي عبيدة ، وأبي زيد ، وأبي عاصم النبيل ، والأصمعي .
وعنه : الحكيمي ، وأبو بكر الصولي ، وأبو بكر الأدمي ، وأحمد بن كامل ، وابن نجيح ، وآخرون .
أَضَرَّ أبو العيناء وله أربعون سنة ، وكان يخضب بالحمرة .
مات في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائتين وقد جاوز التسعين .
قلما روى من المسندات ، ولكنه كان ذا مُلَح ونوادر وقوة ذكاء .
قال له الوزير أبو الصقر : ما أخرك عنا ؟
قال : سُرِق حماري .
قال : وكيف سُرق ؟ قال : لم أكُ مع اللص فأخبرك .
قال : فهلا جئت على غيره ؟
قال : أخرني عن السرى قلة يساري ، وكرهت ذلة العواري ، ونزق المكاري .
وقيل : عاش اثنتين وتسعين سنة .
- له نوادر وحكايات مستظرفة ، ومراسلات عجيبة ، ومنها على سبيل المثال :
أن بعض الرؤساء قال له : يا أبا العيناء ، لو مت لرقص الناس طربًا وسرورًا ، فقال بديهة :
أردت مذمتي فأجدت مدحي … بحمد الله ذلك لا بحمدك
فلا تك واثقًا أبدًّا بعمد … فقد يأتي القضاء بغير عمدك
ثم قال : أجل ! الناس قد ذهبوا ، فلوا رآني الموتى لطربوا لدخول مثلي عليهم ، وحلول عقلي لديهم ، ووصول فضلي إليهم ، فما زال الموتى يغبطونكم ويرحمونني بكم .
وقال : واتصلت أشغال أبي الصقر الوزير ، فتأخر توقيعه عن أبي العيناء برسومه .. فكتب إليه : رقعتي ، أطال الله بقاء الوزير ، رقعة من علم شغلك فاطرح عدلك ، وحقق أمرك وابسط عذرك .
أما والليل إذا عسعس ، فالبنان لبنات الدنان ، وملامسات الحسان ، وأما والصبح إذا تنفس ، فالبنان للعنان ، ومؤامرات السلطان ، فمن أبو العيناء القرنان !
فوَقَّع أبو الصقر تحت سطوره : لكل طعام مكان ، ولكل معوز إمكان ، وقد وقعنا لك بالمرسوم ، وجعلنا لك بالرسوم ، وجعلنا لك حظًا من المقسوم ، وكفينا أنفسنا عذرك الذي هو تعزير ، ولسانك الذي هو تحذير .. والسلام .
ثم لقيه أبو العيناء في صدر موكبه فقال : طاعة شيمك لسلطان كرمك ، ألزمتك الصبر على ذنوبي إليك ، وتجني خلقي عليك .. فقال أبو الصقر : كبير حسناتك ، يستغرق يسير سيئاتك .
فدعا له وانصرف شاكرًا .
قال الصولي : حدثني أبو العيناء قال : أُدخلت على المتوكل ، فدعوت له وكلمته فاستحسن كلامي ، وقال : بلغني أن فيك بذاء .. قلت : يا أمير المؤمنين ؛ إن يكن الشر الذي بلغك عني ذكر المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، فقد زَكَّى الله تعالى وَذَمّ ؛ فقال : ” نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ” ، وقال : ” هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ” .. وقال الشاعر :
إذا أنا لم أمدح على الخير أهله … ولم أذمم الجبس اللئيم المذمّما
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه … وشقّ لي الله المسامع والفما
وإن كان الشر الذي بلغك عني كفعل العقرب الذي تلدغ النبي والذمي بطبع لا بتمييز ؛ فقد صان الله عبدك عن ذلك .
قال : بلغني أنك رافضي .
قال : وكيف أكون رافضيًّا وبلدي البصرة ، ومنشئي في مسجد جامعها ، وأستاذي الأصمعي !!
وليس يخلو القوم إن كانوا أرادوا دينًا أو دنيا ، فإن كانوا أرادوا الدين فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا وإيمان من كفروا ؛ وإن كانوا أرادوا الدنيا فأنت وآباؤك أمراء لا دين إلا بكم ، ولا دنيا إلا معكم .
قال : فكيف ترى داري هذه ؟
قال : رأيت الناس بنوا دارهم في الدنيا ، وأنت بنيت الدنيا في دارك .
قال : فما تقول في عبيد الله بن يحيى ؟ قال : نعم العبد لله ولك ، مقسم بين طاعته وخدمتك ، يؤثر رضاك على كل فائدة ، وما عاد بصلاح ملكك على كل لذة .
كان في بني الجراح فتى خليع ماجن ، أراد العبث بأبي العيناء ، فنهاه نصحاؤه فأبى ، فقالوا : شأنك .
فقال له : يا أبا العيناء ، متى أسلمت ؟
فقال : حين آمن أهلك وأبوك الذين لم يؤدبوك .
فقال له الفتى : إذًا قد علمت أنك ما أسلمت .
فقال أبو العيناء : شهادتك لأهلك دعوى ، وشهادتي عليهم بلوى ، وسترى أي السلطانين أقوى ، وأي الشيطانين أغوى ، وسيعلم أهلك ، ما جنى عليهم جهلك .
قال : فأتاه أبوه فتبرأ من ذمته ، ودفعه إليه برمته .
فقال له أبو العيناء : قد وهبت جوره لعدلك ، وتصدقت بحمقه على عقلك .
- شعر أبي العيناء :
أبو العيناء شاعر مُقِل ، ومع قلة شعره فهو جيد ، وامتازت قصائده بوضوح المعنى والبساطة ، ومال فيها إلى الفكاهة ، وتناول في شعره الحكمة والفخر والهجاء .
وفي العصر الحديث جمع نعمان أمين طه نوادره ومخاطباته ونشرها في 1972 ، ونُشِر ديوانه في 1976 بتحقيق سعيد الغانمي في مجلة [ البلاغ ] ، وفي 1994 نُشِر ديوانه في كتاب منفصل بتحقيق أنطوان القوال .
ومن شعره الجميل :
مَنْ كَانَ يَمْلِكُ دِرْهَمَيْنِ تَعَلَّمَتْ … شَفَتاهُ أَنْواعَ الكَلامِ فَقَالا
وَتَقَدَّمَ الفُصَحاءُ فَاسْتَمَعوا له … وَرَأَيْتَهُ بَيْنَ الوَرى مُخْتالا
لولا دَراهِمُهُ الَّتي فِي كِيسِهِ … لَرَأَيْتَهُ شَرَّ البَرِيَّةِ حالا
إِنَّ الغَنيَّ إِذا تَكَلَّمَ كَاذِبًا … قَالوا صَدَقْتَ وَما نَطَقْتَ مُحالا
وَإِذا الفقيرُ أَصابَ قالوا لَمْ تُصِبْ … وَكَذَبْتَ يا هذا وَقُلْتَ ضلالا
إِنَّ الدَّراهِمَ فِي المَواطِنِ كُلّها … تَكْسُو الرِّجَالَ مَهابَةً وجَلالا
فَهْيَ اللِّسانُ لِمنْ أَرادَ فَصاحةً … وَهْيَ السِّلاحُ لِمَنْ أَرادَ قِتالا