مؤمن أصحاب القرية

مؤمن أصحاب القرية :

لم ينفعهم نصح الناصحين ، ووعظ الواعظين ، والمعلوم أن الداعي إلى الله ليس عليه هداية المدعوين ، وإنما عليه البلاغ المبين ؛ لأن الله تعالى يقول لنبيه ” لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ” (البقرة : 272) ، حتى لو كان من الأقربين ؛ مع أنه سيد المرسلين .
وجاءهم من أقصى المدينة ناصحًا إياهم أن يتبعوا المرسلين ، كما جاء في سورة يس ؛ قتلوه ، فيا لهم من مجرمين ؛ فدخل الجنة وجعله ربه من المكرمين ، وأهلكهم ربهم بصيحة واحدة فإذا هم خامدون .

قال الله تعالى :

” وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون “. (يس : 13-30)

– الدعوة إلى الله :

هذه القصة مَثَل من أمثلة الدعوة إلى الله عز وجل ، وقد بذل الدعاة غاية جهدهم في النصيحة والبلاغ ، بل والتضحية بالغالي والنفيس من أجل هداية قومهم إلى الدرجة التي ضحى بعضهم بحياته ابتغاء مرضاة ربه ومولاه جل في علاه ؛ كصاحب قصتنا هذه ، ولقد كان هؤلاء القوم من الغباوة والكفر بمكان ؛ فلم ينفعهم النصح ، وران على قلوبهم بما كانوا يكسبون .

وكما أن الكافر أو المجرم أو الذي يصد عن سبيل الله قد يُقتَل أو يموت ، فكذلك المؤمن قد يموت في طريق الدعوة إلى الله أو في الجهاد في سبيل الله ، ولكن يبقى حساب آخر ، وهو حساب الآخرة ، وحتى القتل بالنسبة للمؤمن كما صح في الحديث : ” أن الشهيد لا يذوق من مس القتل إلا كما يذوق من مس القرصة “.

– للشهيد ست خصال :

وقد صح في الحديث : ” للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن الفزع الأكبر ، ويحلى حلية الإيمان ، ويزوج من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنسانًا من أقاربه “.

فقصة مؤمن أصحاب القرية تحكي لنا قصة الدعوة إلى الله عز وجل ، والداعية إلى الله عز وجل ليس عليه هداية المدعوين ؛ لأن الله عز وجل يقول لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم : ” لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ” (البقرة : 272) ، مع أنه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .

ليس على الداعية هداية الناس ، ولكن عليه البلاغ المبين والإخلاص في الدعوة ، وأن تكون الدعوة على بصيرة ، بالحكمة والموعظة الحسنة .

– الهداية من الله :

أما هداية الناس فالله عز وجل يتولاها ، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم -وهو الكريم على ربه- لما دعا عمه أبا طالب لم يستجب بل مات على ملة عبد المطلب ، وعند ذلك نزل قوله عز وجل : ” إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ “. (القصص : 56)

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يستطع هداية عمه الذي كان يحوطه ويدافع عنه ، وكان يقول شعرًا فيما معناه :
لولا قرناء السوء ولولا حرصه على تقليد الآباء والأجداد لآمن ، فقرناء السوء كانوا يقولون له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ حتى مات وهو يقول : على ملة عبد المطلب ، مع شديد الأسف .

وكان يعلم يقينًا أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى دين الحق ، وأن دين الإسلام هو الحق ، ولكن الهداية هداية القلوب ، والله تعالى هو الذي يملك قلوب الناس ؛ فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على هداية الناس غاية الحرص ، كما قال عز وجل : ” لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يكونوا مؤمنين “. (الشعراء : 3)

– قصة مؤمن أصحاب القرية :

وهذه القصة القرآنية جاءت في سورة يس ؛ كما ذكرنا آنفًا ، وسورة يس هي السورة رقم 36 في ترتيب المصحف ، وعدد آياتها 83 آية ، وذُكرت القصة من الآية 13 حتى الآية 30 .

” واضرب لهم مثلًا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون “
واضرب -يا محمد- لمشركي قومك الرادين لدعوتك مثلًا يعتبرون به ، وهو قصة أهل القرية ، حين ذهب إليهم المرسلون .

” إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون “
إذ أرسلنا إليهم رسولين لدعوتهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة غيره ، فكذب أهل القرية الرسولين ؛ فعززناهما وقويناهما برسول ثالث ، فقال الثلاثة لأهل القرية : إنا إليكم -أيها القوم- مرسلون .

” قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون “
قال أهل القرية للمرسلين : ما أنتم إلا أناس مثلنا ، وما أنزل الرحمن شيئًا من الوحي ، وما أنتم -أيها الرسل- إلا تكذبون .

” قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون “
قال المرسلون مؤكدين : ربنا الذي أرسلنا يعلم إنا إليكم لمرسلون .

” وما علينا إلا البلاغ المبين “
وما علينا إلا تبليغ الرسالة بوضوح ، ولا نملك هدايتكم ، فالهداية بيد الله وحده .

” قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم “
قال أهل القرية : إنا تشاءمنا بكم ، لئن لم تكفوا عن دعوتكم لنا لنقتلنكم رميًا بالحجارة ، وليصيبنكم منا عذاب أليم موجع .

” قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون “
قال المرسلون : شؤمكم وأعمالكم من الشرك والشر معكم ومردوده عليكم ، أإن وُعظتم بما فيه خيركم تشاءمتم وتوعدتمونا بالرجم والتعذيب ؟ بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان والتكذيب .

” وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين “
وجاء من مكان بعيد في المدينة رجل مسرع ( وذلك حين علم أن أهل القرية هموا بقتل الرسل أو تعذيبهم ) ، قال : يا قوم اتبعوا المرسلين إليكم من الله .

” اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون “
اتبعوا الذين لا يطلبون منكم أموالًا على إبلاغ الرسالة ، وهم مهتدون فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده .
وفي هذا بيان فضل من سعى إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

” وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون “
وأي شيء يمنعني من أن أعبد الله الذي خلقني ، وإليه تصيرون جميعًا ؟

” أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئًا ولا ينقذون “
أأعبد من دون الله آلهة أخرى لا تملك من الأمر شيئًا ، إن يردني الرحمن بسوء فهذه الآلهة لا تملك دفع ذلك ولا منعه ، ولا تستطيع إنقاذي مما أنا فيه .

” إني إذًا لفي ضلال مبين “
إني إن فعلت ذلك لفي خطأ واضح ظاهر .

” إني آمنت بربكم فاسمعون “
إني آمنت بربكم فاستمعوا إلى ما قلته لكم ، وأطيعوني بالإيمان .
فلما قال ذلك وثب إليه قومه وقتلوه ، فأدخله الله الجنة .

” قيل ادخل الجنة “
قيل له بعد قتله : ادخل الجنة ؛ إكرامًا له .

” قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين “
قال وهو في النعيم والكرامة : يا ليت قومي يعلمون بغفران ربي لي وإكرامه إياي ؛ بسبب إيماني بالله وصبري على طاعته ، واتباع رسله حتى قُتِلت ، فيؤمنوا بالله فيدخلوا الجنة مثلي .

” وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين “
وما احتاج الأمر إلى إنزال جند من السماء لعذابهم بعد قتلهم الرجل الناصح لهم وتكذيبهم رسلهم ، فهم أضعف من ذلك وأهون ، وما كنا منزلين الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم ، بل نبعث عليهم عذابًا يدمرهم .

” إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون “
ما كان هلاكهم إلا بصيحة واحدة ، فإذا هم ميتون لم تبق منهم باقية .

” يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون “
يا حسرة العباد وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب ، ما يأتيهم من رسول من الله تعالى إلا كانوا به يستهزئون ويسخرون .


إنه مؤمن أصحاب القرية مؤمن آل ياسين : ( حبيب النجار ).

ندعوكم لقراءة : خير التابعين

Exit mobile version