كلٌ في كتاب
كلٌ في كتاب :
يقول الله تعالى في كتابه العزيز :
” وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ “. (الْأَنْعَام : 38)
نتوقف عند قول الحق سبحانه وتعالى : ” مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ “.
فقد قيل في تفسير الكتاب قولان ، أولهما أنه اللوح المحفوظ ، وثانيهما أنه القرآن الكريم .
قال ابن الجوزي في زاد المسير : قوله تعالى : ” ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ” ، في الكتاب قولان : أحدهما : أنه اللوح المحفوظ ، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : ما تركنا شيئًا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب ، وإلى هذا المعنى ذهب قتادة ، وابن زيد .
والثاني : أنه القرآن .. روى عطاء عن ابن عباس : ما تركنا من شيء إلا وقد بَيَّناه لكم .
فعلى هذا يكون من العام الذي أُريد به الخاص ، فيكون المعنى : ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبَيَنَّاه في الكتاب ، إما نَصًّا ، وإما مُجمَلًا ، وإما دلالة ، كقوله تعالى : ” وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ” ؛ أي : لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين . اهــ .
– أمثال العرب والعجم :
ونتوقف قليلًا مع هذا العالم الجليل الحسين بن الفضل ( وهو أحد مفسري القرآن في القرن الثالث الهجري ، وإمام عصره في معاني القرآن ).
فقد سألوه : إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن .
- فهل تجد في كتاب الله : خير الأمور أوسطها ؟
قال : نعم ؛ في أربعة مواضع :
1- ” لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك “.
2- ” والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما “.
3- ” ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط “.
4- ” ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا “.
- فقيل : فهل تجد : من جهل شيئًا عاداه ؟
قال : نعم في موضعين :
1- ” بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه “.
2- ” وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم “.
- فقيل : فهل تجد : احذر شر من أحسنت إليه ؟
قال : نعم ؛ ” وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله “.
- قيل : فهل تجد : ليس الخبر كالعيان ؟
قال : نعم ؛ ” أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي “.
- قيل : فهل تجد : في الحركة بركة ؟
قال : نعم ؛ ” ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة “.
- قيل : فهل تجد : كما تدين تُدان ؟
قال: نعم ؛ ” من يعمل سوءًا يُجز به “.
- قيل : فهل تجد : حين تلقى ندري ؟
قال : نعم ؛ ” وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا “.
- قيل : فهل تجد : لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين ؟
قال : نعم ؛ ” هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل “.
- قيل : فهل تجد : من أعان ظالمًا سُلِّط عليه ؟
قال : نعم ؛ ” كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير “.
- قيل : فهل تجد فيه : لا تلد الحية إلا حية ؟
قال : نعم ؛ ” ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا “.
- قيل : فهل تجد فيه : للحيطان آذان ؟
قال : نعم ؛ ” وفيكم سَمَّاعون لهم “.
- قيل : فهل تجد فيه : الحلال لا يأتيك إلا قوتًا ، والحرام لا يأتيك إلا جزافًا ؟
قال : نعم ؛ ” إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم “.
( المصدر : كتاب [ الإتقان في علوم القرآن ] (4/52-5) للإمام السيوطي رحمه الله تعالى ).
ندعوكم لقراءة : قالوا عن القرآن 1
– توحيد الربوبية :
- ويقول الشيخ محمد إسماعيل المقدم :
وقوله : ( مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ ) يعني : ما تركنا وما أرسلنا في الكتاب ، والكتاب هو لوح القضاء المحفوظ .
وقوله : ( مِنْ شَيْءٍ ) يعني : سواء أكان جليلًا أم دقيقًا ، فإن اللوح المحفوظ أو هذا الكتاب الذي هو أم الكتاب مشتمل على ما يجري في العالم ، ولم يهمل فيه أمر شيء ، والمعنى أن الجميع علمهم عند الله ؛ ولذا قال : ( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) ، فعِلم هذا كله عند الله لا ينفك واحد منها عن رزقه وتدبيره ، وهذا كقوله تعالى :
” وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ” (هود : 6) ؛ أي : كتاب مفصح بأسمائها وأعدادها ومضانها ، وحاصر لحركاتها وسكناتها .
وقوله : ( ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) ؛ يعني الأمم كلها من الدواب والطير ، فيقتص لبعضها من بعض ، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء ، فلابد من العدل حتى بين هذه البهائم يوم القيامة ، حتى يقتص للجماء التي لا قرن لها من القرناء التي كانت ذات قرن ونطحتها وآذتها بقرنها ، فتبعث هذه ويُقتَص لهذه من تلك عدلًا من الله سبحانه وتعالى .
وقوله تعالى : ( ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) أورد الضمير على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مجرى العقلاء .
- قال الزمخشري : إن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك ؟!
أي أن سياق الكلام في مناقشة الكفار في تعنتهم وعنادهم واقتراحهم الآيات ، فما غرضه من ذكر هذه الآية : ( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) إلى آخره ؟!
قلت : الدلالة على عظم قدرته ، ولطف علمه ، وسعة سلطانه ، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف ، وهو حافظ لها وما عليها ، مهيمن على أحوالها ، لا يشغله شأن عن شأن ، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون ما عداهم من سائر الحيوان ، إشارة إلى عظم قدرة الله سبحانه وتعالى وسعة علمه .
والإنسان يتخيل أنه لا يوجد شيء مهما دق إلا والله سبحانه وتعالى هو الذي يدبر أمره ، وهذا هو معنى توحيد الربوبية : أن تؤمن أن كل ما في الوجود هو من عند الله سبحانه وتعالى ، ولا يقوى أحد على شيء أبدًا إلا بالله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فليس الله سبحانه وتعالى يدبر أمر الخلائق مؤمنهم وكافرهم وإنسهم وجنهم فحسب ، وإنما يدبر أمر كل ما في هذا الوجود ، فكل سمكة في البحار ، وكل طائر في السماء ، وكل نملة في الجحر ، وكل حشرة ، وكل حيوان ، وكل ما تتخيله ، حتى الذرات والإلكترونات ، وكل ما يوجد في هذا الوجود لا يتحرك شيء منه بحركة إلا بأمر من الله سبحانه وتعالى وتدبير من الله عز وجل .
- يقول الرازي المقصود : أن عناية الله لما كانت حاصلةً لهذه الحيوانات ، فلو كان إظهار آية مصلحة لأظهرها ، فيكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية .