فاتحة الكتاب
الحمد لله الذي جعل الحمد فاتحة الكتاب ، وهو سبحانه صاحب الأجر والثواب ، وهو العاطي الوهاب .
هيأ لنا الدعاء المستجاب ، فهيأ لنا كل الأسباب ؛ من دعاه بصدق ما خسر وما خاب ، يفتح لنا بابًا من بعد باب ، علينا السؤال وعليه الجواب .
ولله در شوقي القائل :
فلم أرَ غير حكم الله حُكمًا … ولم أرَ دون الله بابا
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز :
“ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ”.
– السبع المثاني :
جاءت تسمية الفاتحة بالسبع المثاني في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة ، قال الله تعالى مخاطبًا لنبيه صلى الله عليه وسلم : ” وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ” [الحجر : 87] ، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ” الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته “.
وسميت السبع المثاني ؛ لأن المصلي يثني بها أي يعيدها في كل ركعة من صلاته ، أو لأن المصلي يثني بها على الله عز وجل أي يمدحه بها ، قال الحافظ في الفتح : واختلف في تسميتها مثاني ، فقيل لأنها تثنى في كل ركعة أي تُعاد ، وقيل لأنها يثنى بها على الله تعالى ، وقيل لأنها استثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها .
– أعظم سورة :
سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن العظيم ، وفضائل سورة الفاتحة وأسرارها لا تنتهي ، فقراءتها ركن من أركان الصلاة بخلاف غيرها من السور بل لا تصح الصلاة بدونها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : “ لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ”.
سورة الفاتحة هي أول سور ترتيبًا في القرآن الكريم وموقعها في الجزء الأول ، من الحزب الأول ، في الربع الأول ، وقد نزلت بعد سورة المدثر ، عدد آياتها سبع مع البسلمة ، وتبدأ بالحمد والثناء .. وهي مكية ، وأول سور القرآن ترتيبًا لا تنزيلًا .
– فضل سورة الفاتحة :
سورة الفاتحة على صغر حجمها ، وقلة آياتها ، قد اشتملت بوجه إجمالي على مقاصد الدين من توحيد ، وتعبد ، وأحكام ، ووعد ووعيد.
وفي سورة الفاتحة ذكر لصفات الجلال والكمال والجمال التي يتصف بها ربنا عز وجل ؛ ففي سورة الفاتحة بيان للعقائد التي ينبغي أن تنعقد عليها قلوبنا في ربوبية الله عز وجل وإلوهيته وأسمائه وصفاته وما ينبغي نحوه من عبادته وتوحيده جل جلاله ، ثم بيان معالم الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله لعباده .
وقد ورد في فضل سورة الفاتحة بعض الأحاديث ، منها :
ما رواه البخاري عن سعيد رافع بن المُعَلَّى ، قوله صلى الله عليه وسلم : “ لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ” ، ثم أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج ، قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟
قال : “ ( الحمد لله رب العالمين ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ”. (رواه البخاري : 5006)
لم ينزل في التوراة ولا الإنجيل سورة مثل سورة الفاتحة ولا أعظم منها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : “ ما أنزل الله عز وجل في التوراة ولا في الإنجيل مثل أمِّ القرآن ”. (رواه النسائي والترمذي وأحمد)
– معنى سورة الفاتحة :
قد تكون سُميت سورة الفاتحة بهذا الاسم :
- لأنها افتتح بها المصحف في الكتابة .
- ولأنها تفتتح بها الصلاة في القراءة .
كما أن لها مكانة كبيرة بين السور ، كالآتي :
- أعظم سورة في القرآن العظيم ؛ فروى البخاري وأحمد وأبو داود وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد بن المعلي رضي الله عنه : لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد .. فقال : ” ( الحمد لله رب العالمين ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته “.
- لم ينزل في التوراة ولا الإنجيل سورة مثلها ولا أعظم منها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” ما أنزل الله عز وجل في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن “. (رواه النسائي وأحمد وصححه الألباني والأرناؤوط)
- أول سورة افتُتح بها المصحف الشريف .
- هي ركن من أركان الصلاة بخلاف غيرها من السورة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب “.
– أسماء سورة الفاتحة :
ذكر الإمام القرطبي -رحمه الله- اثني عشر اسمًا للفاتحة ، وهي :
1- الصلاة ؛ لحديث : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين .
2- سورة الحمد ، لذكر الحمد فيها .
3- فاتحة الكتاب .
4- أم الكتاب .
5- أم القرآن .
6- المثاني .
7-القرآن العظيم .
8- الشفاء .
9-الرقية .
10-الأساس .
11-الوافية .
12-الكافية .
– فوائد سورة الفاتحة للشفاء :
تتضمن الفاتحة شفاء جميع الأمراض ؛ ﻓﻔﻲ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ﺃﺑﻲ اﻟﻤﺘﻮﻛﻞ اﻟﻨﺎﺟﻲ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﺳﻌﻴﺪ اﻟﺨﺪﺭﻱ : « ﺃﻥ ﻧﺎﺳًﺎ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ اﻟﻨﺒﻲ -ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ- ﻣﺮﻭا ﺑﺤﻲ ﻣﻦ اﻟﻌﺮﺏ ، ﻓﻠﻢ ﻳﻘﺮﻭﻫﻢ ، ﻭﻟﻢ ﻳﻀﻴﻔﻮﻫﻢ ، ﻓﻠُﺪِﻍ ﺳﻴﺪ اﻟﺤﻲ ، ﻓﺄﺗﻮﻫﻢ ، ﻓﻘﺎﻟﻮا : ﻫﻞ ﻋﻨﺪﻛﻢ ﻣﻦ ﺭﻗﻴﺔ ، ﺃﻭ ﻫﻞ ﻓﻴﻜﻢ ﻣﻦ ﺭاﻕ ؟ ﻓﻘﺎﻟﻮا : ﻧﻌﻢ ، ﻭﻟﻜﻨﻜﻢ ﻟﻢ ﺗﻘﺮﻭﻧﺎ ، ﻓﻼ ﻧﻔﻌﻞ ﺣﺘﻰ ﺗﺠﻌﻠﻮا ﻟﻨﺎ جُعلًا ، ﻓﺠﻌﻠﻮا ﻟﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ ﻗﻄﻴﻌًﺎ ﻣﻦ اﻟﻐﻨﻢ ، ﻓﺠﻌﻞ ﺭﺟﻞ ﻣﻨﺎ ﻳﻘﺮﺃ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﻔﺎﺗﺤﺔ اﻟﻜﺘﺎﺏ ، ﻓﻘﺎﻡ ﻛﺄﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﻪ ﻗﻠﺒﺔ ، ﻓﻘﻠﻨﺎ : ﻻ ﺗﻌﺠﻠﻮا ﺣﺘﻰ ﻧﺄﺗﻲ اﻟﻨﺒﻲ -ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ- ، ﻓﺄﺗﻴﻨﺎﻩ ، ﻓﺬﻛﺮﻧﺎ ﻟﻪ ﺫﻟﻚ ، ﻓﻘﺎﻝ : ﻣﺎ ﻳﺪﺭﻳﻚ ﺃﻧﻬﺎ ﺭﻗﻴﺔ ؟ ﻛُﻠﻮا ، ﻭاﺿﺮﺑﻮا ﻟﻲ ﻣﻌﻜﻢ ﺑﺴﻬﻢ ».
– الفاتحة لأمة الإسلام :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما أنزلَ اللَّهُ في التَّوراةِ ولاَ في الإنجيلِ ، مثلَ أمِّ القرآنِ وَهي السَّبعُ المثاني وَهي مقسومةٌ بيني وبينَ عبدي ولعبدي ما سألَ “. (صححه الألباني في صحيح الترمذي)
وَلَقَد خُصَّت بالذِّكرِ بعضُ السُّورِ والآياتِ الَّتي يَكونُ لِقارئِها فضلٌ عظيمٌ في الأجرِ والثَّوابِ ، كما في هذا الحديثِ ، حيثُ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم : ” ما أنزَل اللهُ ” ، أي : مِن الآياتِ ، ” في التَّوراةِ ” ، وهو الكتابُ الَّذي أنزَله اللهُ عزَّ وجلَّ على نبيِّه موسى عليه السَّلامُ ، ” ولا في الإنجيلِ ” ، وهو الكتابُ الَّذي أنزَله اللهُ عزَّ وجلَّ على نبيِّه عيسى عليه السَّلامُ ، ” مِثْلَ أمِّ القرآنِ ” ، أي : شيئًا مِن الآياتِ أو السُّورِ أو مُحتَوى الكتابَين بمِثْلِ فضلِ فاتحةِ الكتابِ ، وقيل : سُمِّيَت بأمِّ القرآنِ ؛ لأنَّها أوَّلُه ومُتضمِّنةٌ لجَميعِ عُلومِه .
قال صلَّى الله عليه وسلَّم : ” وهي السَّبعُ المثاني ” ، أي : وهي سبعُ آياتٍ ، وتُثنَّى في الصَّلاةِ وتُكرَّرُ قِراءتُها في كلِّ ركعةٍ ، وقيل : لأنَّها استُثنِيَت لهذه الأمَّةِ فلم تَنزِلْ على أحَدٍ قبلَها ذُخرًا لها ، ” وهي مقسومةٌ بيني وبين عَبدي ” ، أي : لأنَّ نِصْفَها ثناءٌ وتمجيدٌ وهو يختصُّ باللهِ تعالى ، ونِصْفَها سُؤالٌ وابتهالٌ وهو يَختصُّ بالعبدِ ، ” ولِعَبدي ما سأل ” ، أي : ومِن عظيمِ فَضلِ الفاتحةِ : أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُلبِّي لِمَن يَقرَؤُها ما سأَل في الفاتحةِ مِن طلَبٍ ودُعاءٍ .
– تفسير الجلالين :
جاء في تفسير الجلالين للإمامين الجليلين جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي تفسير فاتحة الكتاب على النحو التالي :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
” سُورَة الْفَاتِحَة ” مَكِّيَّة سَبْع آيَات بِالْبَسْمَلَةِ إنْ كَانَتْ مِنْهَا وَالسَّابِعَة صِرَاط الَّذِينَ إلَى آخِرهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهَا فَالسَّابِعَة غَيْر الْمَغْضُوب إلَى آخِرهَا وَيُقَدَّر فِي أَوَّلهَا قُولُوا لِيَكُونَ مَا قَبْل إيَّاكَ نَعْبُد مُنَاسِبًا لَهُ بِكَوْنِهَا مِنْ مَقُول الْعِبَاد .
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ : ” الْحَمْد لِلَّهِ ” جُمْلَة خَبَرِيَّة قُصِدَ بِهَا الثَّنَاء عَلَى اللَّه بِمَضْمُونِهَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَالِك لِجَمِيعِ الْحَمْد مِنْ الْخَلْق أَوْ مُسْتَحِقّ لِأَنْ يَحْمَدُوهُ وَاَللَّه عَلَم عَلَى الْمَعْبُود بِحَقٍّ .. ” رَبّ الْعَالَمِينَ ” أَيْ مَالِك جَمِيع الْخَلْق مِنْ الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة وَالدَّوَابّ وَغَيْرهمْ وَكُلّ مِنْهَا يُطْلَق عَلَيْهِ عَالَم يُقَال عَالَم الْإِنْس وَعَالَم الْجِنّ إلَى غَيْر ذَلِك وَغَلَبَ فِي جَمْعه بِالْيَاءِ وَالنُّون أُولِي الْعِلْم عَلَى غَيْرهمْ وَهُوَ مِنْ الْعَلَامَة لِأَنَّهُ عَلَامَة عَلَى مُوجِده .
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : ” الرَّحْمَن الرَّحِيم ” أَيْ ذِي الرَّحْمَة وَهِيَ إرَادَة الْخَيْر لِأَهْلِهِ .
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ : ” مَالِك يَوْم الدِّين ” أَيْ الْجَزَاء وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة وَخُصّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَا مُلْك ظَاهِرًا فِيهِ لِأَحَدٍ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ ” لِمَنْ الْمُلْك الْيَوْم ؟ لِلَّهِ ” وَمَنْ قَرَأَ مَالِك فَمَعْنَاهُ مَالِك الْأَمْر كُلّه فِي يَوْم الْقِيَامَة أَوْ هُوَ مَوْصُوف بِذَلِك دَائِمًا ” كَغَافِرِ الذَّنْب ” فَصَحَّ وُقُوعه صِفَة لِمَعْرِفَةِ .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ : ” إيَّاكَ نَعْبُد وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين ” أَيْ نَخُصّك بِالْعِبَادَةِ مِنْ تَوْحِيد وَغَيْره وَنَطْلُب الْمَعُونَة عَلَى الْعِبَاد وَغَيْرهَا .
اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ : ” اهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم ” أَيْ أَرْشِدْنَا إلَيْهِ وَيُبْدَل مِنْهُ .
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ : ” صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ ” بِالْهِدَايَةِ وَيُبْدَل مِنْ الَّذِينَ لِصِلَتِهِ بِهِ .. ” غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهِمْ ” وَهُمْ الْيَهُود ” وَلَا ” وَغَيْر ” الضَّالِّينَ ” وَهُمْ النَّصَارَى وَنُكْتَة الْبَدَل إفَادَة أَنَّ الْمُهْتَدِينَ لَيْسُوا يَهُودَ وَلَا نَصَارَى وَاَللَّه أَعْلَم بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِع وَالْمَآب وَصَلَّى اللَّه عَلَى سَيِّدنَا مُحَمَّد وَعَلَى آله وَصَحْبه وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .