عبقرية الإمام :
كاتب العبقريات الفذ المدهش ، عباس محمود العقاد ، الكاتب الموسوعي ، حين يكتب عن شخصية عظيمة ؛ مثل الإمام عليّ ، فإنه يغوص في أعماق الكتب والمراجع ؛ ليستخرح منها اللآلئ ، كما عودنا في كل مؤلفاته .
ولقد بَرَع كاتبنا الكبير في تناول شخصية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ، فقد جعل محور العرض هو مناحي النفس الإنسانية ، إذ استخلص من سيرة الإمام ما يلتقي وخصائص هذه النفس الإنسانية عنده .
ففي سيرته مُلتقى بالعواطف الجيَّاشة والأحاسيس المتطلعة إلى الرحمة والإكبار ؛ لأنه الشهيد أبو الشهداء ، ومُلتقى بالفكر ؛ فهو صاحب آراء فريدة لم يسبقه إليها أحد في التصوف والشريعة والأخلاق ، ومُلتقى مع كل رغبة في التجديد والإصلاح ، فصار اسمه عَلَمًا على الثورة .
كما عَرض الكاتب لطهارة نشأته ، ونقاء سريرته ، وعلوِّ هِمته ، وقوة إرادته ، وغزارة علمه وثقافته ، وروعة زهده وحكمته ، وصدق إيمانه وشجاعته ، وثباته على الحق ونصرته ، وتضحيته في سبيله بروحه ، فقدم عَرضًا وافيًا كافيًا يجمع بين دَفَّتَيْ هذا العمل سيرة رجل من أعظم من أنجبت المدرسة المُحمَّدية .
- وتحت عنوان ” صفاته ” يقول :
المشهور عن علي ، أنه كان أول هاشمي من أبوين هاشميين ، فاجتمعت له خلاصة الصفات التى اشتهرت بها هذه الأسرة الكريمة ، وتقاربت سماتها وملامحها فى كثير من أعلامها المقدمين ، وهي في جملتها : النبل والأيد والشجاعة والمروءة والذكاء ، عدا المأثور فى سماتها الجسدية التى تلاقت أو تقاربت فى عدة من أولئك الأعلام .
فهو ابن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف .
وقيل : إن اسمه الذى اختارته له أمه : حيدرة باسم أبيها أسد ، والحيدرة هو الأسد ، ثم غيَّره أبوه فسمَّاه عليًّا وبه عُرٌف واشتهر بعد ذلك .
وكان علي أصغر أبناء أبويه ، وأكبر منه جعفر وعقيل وطالب ، وبين كل منهم وأخيه عشر سنين .
قيل : إن عقيلًا كان أحب هؤلاء الإخوة إلى أبيه ، فلما أصاب القحط قريشًا وأهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعميه حمزة والعباس أن يحملوا ثقل أبي طالب فى تلك الأزمة جاءوه ، وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم ، فقال : دعوا لى عقيلًا وخذوا من شئتم ، فأخذ العباس طالبًا ، وأخذ حمزة جعفرًا ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا كما هو مشهور ، فعوضه إيثار النبي بالحب عن إيثار أبيه ، ولكنه عرف هذا الإيثار فى طفولته الأولى ، فكان سابقة باقية الأثر فى نفسه على ما يبدو من أطوار حياته التالية ، وجاءت لهذه السابقة لواحقها الكثيرة على توقع واستعداد ، فتعود أن يفوته الحق والتفضيل وهو يدرج فى صباه .
وربما صح من أوصاف ” علي ” فى طفولته أنه كان طفلًا مبكر النماء سابقًا لأنداده فى الفهم والقدرة ؛ لأنه أدرك فى السادسة أو السابعة من عمره شيئًا من الدعوة النبوية التى يَدِقُّ فهمها ، والتنبه لها على من كان فى مثل هذه السن المبكرة ، فكانت له مزايا التبكير فى النماء كما كانت له أعباؤه ومتاعبه التى تلازم أكثر المبكرين ، ولا سيما المولودين منهم فى شيخوخة الآباء .
ونشأ ، رضى الله عنه، رجلًا مكين البنيان فى الشباب والكهولة ، حافظًا لتكوينه المكين حتى ناهز الستين .
- أوصافه :
قال واصفوه وهو فى تمام الرجولة : إنه كان ، رضى الله عنه ، ربعة أميل إلى القصر ، آدم ، أي : أسمر ، شديد الأدمة ، أصلع مبيض الرأس واللحية طويلها ، ثقيل العينين فى دعج وسعة ، حسن الوجه ، واضح البشاشة ، أغيد كأنما عنقه إبريق فضة ، عريض المنكبين لهما مشاش كمشاش السبع الضاري لا يتبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجًا ، وكان أبجر ، أي : كبير البطن ، يميل إلى السمنة فى غير إفراط ، ضخم عضلة الساق دقيق مستدقها ، ضخم عضلة الذراع دقيق مستدقها ، شثن الكفين ، يتكفأ فى مشيته على نحوٍ يقارب مشية النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقدم فى الحرب فيقدم مهرولًا لا يلوي على شىء .
وتدل أخباره ، كما تدل صفاته ، على قوة جسدية بالغة فى المكانة والصلابة على العوارض والآفات ، فربما رفع الفارس بيده فجلد به الأرض غير جاهد ولا حافل ، ويمسك بذراع الرجل فكأنه أمسك بنفسه فلا يستطيع أن يتنفس ، واشتهر عنه أنه لم يصارع أحدًا إلا صرعه ، ولم يبارز أحدًا إلا قتله ، وقد يزحزح الحجر الضخم لا يزحزحه إلا رجال ، ويحمل الباب الكبير يعيي بقلبه الأشداء ، ويصيح الصيحة فتنخلع لها قلوب الشجعان .
ومن مكانة تركيبه ، رضي الله عنه ، أنه كان لا يبالى الحر والبرد ، ولا يحفل الطوارئ الجوية فى صيفٍ ولا شتاء ، فكان يلبس ثياب الصيف فى الشتاء وثياب الشتاء فى الصيف ، وسُئل فى ذلك فقال :
” إن رسول الله ﷺ بعث إليَّ وأنا أرمد العين يوم خيبر ، فقلت : يا رسول الله ، إني أرمد العين ، فقال : اللهم أذهب عنه الحر والبرد ، فما وجدت حرًّا ولا بردًا منذ يومئذ “.
رضي الله عن أسد الله الغالب : عليّ بن أبي طالب .