عبرة لمن يخشى :
ما يراه الناس ويسمعون به جيلًا من بعد جيل ؛ منذ خلق آدم وحتى قيام الساعة من عِبَر ، هي لمن يخشى عذاب الآخرة ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
يقول الله العزيز الحميد ، في كتابه المجيد :
« هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى * فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ». (النازعات : 15-26)
** وفي التفسير :
يخبر الله تبارك وتعالى رسوله محمدًا ﷺ عن عبده ورسوله موسى عليه السلام : أنه ابتعثه إلى فرعون ، وأيده الله بالمعجزات ، ومع هذا استمر على كفره وطغيانه حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وكذلك عاقبة من خالفك وكذَّب بما جئت به ، ولهذا قال في آخر القصة : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ }.
فقوله تعالى : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ} أي هل سمعت بخبره {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} أي : كلمه نداء {بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ} أي : المطهر {طُوًى} وهو اسم الوادي على الصحيح ؛ كما تقدم في سورة طه ، فقال له : {ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ} أي : تجبر وتمرد وعتا {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ} أي : قل له : هل لك أن تجيب إلى طريقة ومسلك تزكى به وتسلم وتطيع ؟ {وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ} أي : أدلك إلى عبادة ربك {فَتَخْشَىٰ} أي : فيصير قلبك خاضعًا له مطيعًا خاشعًا بعدما كان قاسيًا خبيثًا بعيدًا من الخير {فَأَرَاهُ ٱلأَيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ} يعني : فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قوية ، ودليلًا واضحًا على صدق ما جاءه به من عند الله ، {فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ} أي : فكذب بالحق ، وخالف ما أمره به من الطاعة ، وحاصله أنه كفر قلبه ، فلم ينفعل لموسى بباطنه ولا بظاهره ، وعلمه بأن ما جاء به حق لا يلزم منه أنه مؤمن به ؛ لأن المعرفة علم القلب ، والإيمان عمله ، وهو الانقياد للحق والخضوع له .
وقوله تعالى : {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ} أي : في مقابلة الحق بالباطل ، وهو جمعه السحرة ليقابلوا ما جاء به موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات {فَحَشَرَ فَنَادَىٰ} أي : في قومه ، {فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ}.
قال ابن عباس ومجاهد : وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله : ما علمت لكم من إله غيري بأربعين سنة ، قال الله تعالى : {فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلأَخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ} أي : انتقم الله منه انتقامًا جعله به عبرة ونكالًا لأمثاله من المتمردين في الدنيا .
{وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ} [هود : 99].
كما قال تعالى : {وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ لاَ يُنصَرُونَ} [القصص : 41] وهذا هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله : {نَكَالَ ٱلأَخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ} أي : الدنيا والآخرة ، وقيل : المراد بذلك : كلمتاه الأولى والثانية ، وقيل : كفره وعصيانه ، والصحيح الذي لا شك فيه الأول ، وقوله : {إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ} أي : لمن يتعظ وينزجر . (انتهى)
** أخذه أليمٌ شديد :
لا يلزم تأخير العقوبة إلى يوم القيامة ؛ فإنه قد ينال الظالم في الدنيا من عقوبة الله تعالى ما شاء الله ، وقد يُملِي له ثم يأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر .
جاء في الصحيحين :
” إن الله ليملي للظالم ، فإذا أخذه لم يفلته “ ، ثم قرأ بقوله تعالى : « وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ». (هود : 102)
** سنته في عقاب الظالمين :
سنة الله ﷻ في عقاب الظالمين في كل زمان ومكان ؛ فالأخذ والإهلاك للظالمين السابقين ، وكذلك يكون لكل ظالم يأتى من بعدهم ، وينهج نهجهم ، ويسير على دربهم ؛ والعقاب كان ويكون بسبب ظلمهم ، وفي ذلك ما فيه من التحذير لكل ظالم لا يبادر بالإقلاع عن ظلمه قبل فوات الأوان ؛ فإن أخذه للظالمين عظيمٌ إيلامه ، شديدٌ وقعه .
ولقد بيَّن الملك جل في علاه أن ما ساقه في هذا القرآن العظيم عن أحوال السابقين فيه العبرة كل العبرة لمن يعتبر ، وفيه العظة كل العظة لمن خاف عذاب الآخرة الذي ينقسم الناس فيه إلى شقيٍّ وسعيد .
** عاد وثمود وفرعون :
قال الله المنتقم الجبار في سورة الفجر :
« أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ».
يوضح الله عز وجل في كتابه الكريم كيفَ فَعَلَ بهذهِ الأمم الطاغية الباغية ؛ وهيَ( إِرَمَ ) في اليمنِ {ذَاتِ الْعِمَادِ} أي : القوةِ الشديدةِ ، والعتوِّ والتجبُّرِ .
وهي {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا} أي : مثلَ عادٍ {فِي الْبِلادِ} أي : في جميعِ البلدانِ ، كما قالَ لهمْ نبيهُم هودٌ عليهِ السلامُ : {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وكذلك {ثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي : وادي القرى ، نحتُوا بقوتهمُ الصخورَ ، فاتخذوها مساكنَ .
{وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} أي : الجنودِ الذين ثبتوا ملكهُ ، كما تُثبتُ الأوتادُ ما يرادُ إمساكهُ بهَا .
هؤلاء جميعًا {طَغَوْا فِي الْبِلادِ} ؛ وهذا الوصفُ عائدٌ إلى عادٍ وثمودَ وفرعونَ ومَنْ تبعهمْ ، فإنَّهم طغوا في بلادِ اللهِ ، وآذوا عبادَ اللهِ ، في دينهمْ ودنياهمْ ، ولهذا قالَ : {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} وهوَ العملُ بالكفرِ وشُعبِهِ ، منْ جميعِ أجناسِ المعاصي ، وسعَوا في محاربةِ الرسلِ وصدِّ الناسِ عن سبيلِ اللهِ ، فلمَّا بلغُوا منَ العتوِّ ما هوَ موجبٌ لهلاكهمْ ؛ فصبَّ المنتقم الجبار عليهم العذاب صبًّا ، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} لمنْ عصاهُ يمهلُهُ قليلًا ، ثمَّ يأخذُهُ أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ .
** الحذار .. الحذار :
كما أخذ الله العزيز القدير القرى التي كانت لنوح وعاد وثمود وغيرها ، فإنه سبحانه قادر على أن يأخذ جميع القرى الظالمة في كل زمان ومكان ، فرادى وجماعات .
والأخذ هو العقاب المباغت السريع ؛ فليحذر الجميع .