ظاهرة الاعتفار
ظاهرة الاعتفار :
لله در الإمام الشافعي القائل :
تَموتُ الأُسدُ في الغاباتِ جوعًا … وَلَحمُ الضَأنِ تَأكُلُهُ الكِلابُ
وَعَبدٌ قَد يَنامُ عَلى حَريرٍ … وَذو نَسَبٍ مَفارِشُهُ التُرابُ
ظاهرة الاعتفار ، ظاهرة قديمة ، وربما نجدها في أيامنا هذه في ثوب جديد ، مع الأسف الشديد .
وإليكم الظاهرة قديمًا :
مرَّت قريش بمراحل من الجوع والفقر الشديدين ، حتى وصل الأمر ببعضهم ( عائلة من بني مخزوم ) أن أخذ كبيرهم أهل بيته لمكان يُسمَّى ” الخباء ” يبقون فيه حتى يموتوا كلُّهم من الجوع ، وهذه العادة في الجاهلية كان اسمها ” الاعتفار “.
وحين استفحلت تلك العادة ، وفاحتْ روائح الموت ، وتعالى أنينُ الجياع ، أنقذ الله عز وجل تلك الأنفس بأحد كبار التجار ، وهو هاشم بن عبد مناف ( جد نبينا محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ) ، حين جمع فقيرهم وغنيَّهم ، وقال لهم : { أنتم أحدثتم عادة تُذَلُّون بها بين العرب وأنتم أهل بيت الله والناس لكم تبعٌ… }.
تلك الكلمات وقعت في قلوب قريش ، فاستشعرتْ مكانتها بين العرب ، وخافت أن يُنتقَصَ منها شيءٌ ، فاستجابت لنداء الأخوَّة والنَّسب .
فكان الحل من هاشم بن عبد مناف أولًا بتدخُّل الأغنياء لحل المشكلة مؤقتًا ؛ حيث دعاهم لتقسيم أموالهم مع فقرائهم حتى تساوى فقيرهم مع غنيهم ، وبعد ذلك علَّمهم أصول التجارة وأرشدهم لرحلتي الشتاء والصيف : رحلة إلى اليمن ، والأخرى إلى الشام .
هناك حالات لا بد لها من حل مؤقت وآخر بعيد المدى .
والسبب الأقوى لهذه الظاهرة هو وضْع قبيلتهم في موقف مُحرج مع القبائل الأخرى ؛ حيث تركتهم للجوع والموت ، وهو ما يفسِّره قول هشام : أنتم أحدثتم عادة تُذَلُّون بها بين العرب .
وفي العصر الحديث يا سادة ، هل نجد لها شكلًا آخر بأسلوب مختلف ؟
والإجابة : نعم وألف نعم !!
فقد كانت ظاهرة الاغتفار في الجاهلية ، ومع كل الأسف نجد في عصرنا الحديث مشابهًا لها ، ممن اعتفروا وابتعدوا عن الحياة بسبب ظروفهم القاسية ، هؤلاء ماتت أحلامهم ، وتلاشت طموحاتهم ، وانهدَّت عزائمهم تحت خيم الاعتفار .
قال أحد العلماء الأجلاء :
ابحثوا فيمن حولكم وتحسَّسوا ، فهناك أناس قد اعتفروا ، فعزة أنفسهم وإظهار تماسكهم يخفي أوجاعهم ، أدركوهم قبل أن يتمكَّن اليأس منهم ، ويجهز عليهم ، وقتها سيخرجون من خيمهم حفاة بثياب مهترئة ؛ ليناموا تحت الجسور ، ويَهيموا على وجوههم في الطرقات ، وقتها لن تستطيعوا إنقاذهم ؛ لأنهم أصبحوا جسدًا بلا رُوح .
تعالوا لنرى المعلم صلى الله عليه وسلم ، وهو يتحدث عنهم ، فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال : ” ليس المسكين الذي يطوف على الناس ، ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غِنًى يغنيه ، ولا يُفطن له فيُتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس “.
( متفق عليه ).
يقول الدكتور خالد السبت :
ليس المسكين الذي يطوف على الناس بمعنى : أنه ليس المسكين حقيقة الذي يكون أولى الناس بهذا الاسم ، أو تحقُّق هذه الصفة وهي المسكنة : هو ذلك الذي يطوف فيسأل ، مع أن الذي يطوف ويسأل إذا كان يفعل ذلك من حاجة وفقر فلا شك أنه مسكين ، ولكن النبي ﷺ قصد بيان الأحق بهذه التسمية والأجدر بها ، وهو ذلك الإنسان المتعفف ؛ لأن هذا الذي يطوف على الناس ، ويسأل فإن الناس يعطونه ما قد يكون به سدُّ جوعته ، وأيضًا يعرف الناس أن هذا الإنسان محتاج وفقير فيتعاهدونه ، ويعطونه ، ويطلبونه وما إلى ذلك ، فلا يضيع ، لكن الذي لا يسأل لا بلسان المقال ، ولا بلسان الحال ، فكيف يعرف الناس أنه محتاج ؟ فيبقى في بيته يعاني شدة الجوع والمسغبة هو وعياله ، والناس يظنونه في غنى وعافية وسعة من الله تعالى ، فهذا هو المسكين حقيقة ؛ لأن أصل المسكنة مأخوذ من أن أطرافه وجوارحه وأبعاضه كأنها سكنت من شدة فقره ، فالذي يسأل الناس من حاجة هو مسكين ، لكن هذا أحق وأجدر بهذه التسمية .
– سورة قريش :
سورة قريش هي سورة مكية ، من المفصل ، آياتها 4 ، وترتيبها في المصحف 106 ، في الجزء الثلاثين ، بدأت بحرف في الآية الأولى ، قال تعالى : ” لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ” ؛ وفائدة ذكر اللام في قوله سبحانه : ” لِإِيلَافِ ” كما ذكر الطبري في تفسيره ؛ فاللام بمعنى التعجب ، وأن معنى الكلام : اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، فاكتفى باللام دليلًا على التعجب من إظهار الفعل .
( تفسير الطبري : 24 /621 ).
وقريش هي أشهر قبائل الجزيرة العربية والتي كان ينتمي إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
وتنتسب قبيلة قريش إلى : النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز :
بسم الله الرحمن الرحيم
” لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ “. (قريش : 1-4)
المعنى : ألفت قريش واعتادت ، أن ترحل إلى ما جاورها من البلاد ، سعيًا وراء الرزق ، وجلبًا لمعايشهم ، وترويجًا لتجارتهم .
والله سبحانه يمتن عليهم بذلك ، ويقول لهم : من أجل إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، فليعبدوا رب هذا البيت ، الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة ، وتنال من ورائها ما تنال .
تفسير مختصر للسورة :
1 – لأجلِ عادة قريش وإلْفِهم .
2 – رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام آمنين .
3 – فليعبدوا الله ربّ هذا البيت الحرام وحده ، الَّذي يسَّر لهم هذه الرحلة ، ولا يشركوا به أحدًا .
4 – الَّذي أطعمهم من جوع ، وآمنهم من خوف ، بما وضع في قلوب العرب من تعظيم الحرم ، وتعظيم سكانه .