زيد في بيت النبوة :
( ١٦ ) الحلقة السادسة عشرة من سيرة الحبيب ﷺ :
هيا بنا نصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم .
وهبت السيدة خديجة رضي الله عنها نفسها ومالها وكلّ ما ملكت لله ولرسوله ﷺ .
فقد آمنت بالرسول صلى الله عليه وسلم وآزرته ونصرته في أحلك اللحظات التي قَلَّما يجد المرء فيها نصيرًا أو معينًا ، وكأن الله اختصها لتكون سندًا وعونًا للرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغ رسالة رب العالمين الخاتَمة .
فكما اجتبى الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم واصطفاه من بين الخلق كافة ، كذلك قدَّر له في مشوار حياته الأول لتأدية الرسالة العالمية زوجة تشابهه لتكون شريكًا له في حمل هذه الدعوة في مهدها الأول ، فكانت رضي الله عنها تُؤثِر النبي صلى الله عليه وسلم بكل غالٍ ونفيس .
ومن ذلك أنها أهدَته غُلامها زَيد بن حارثة ، الذي صار من أقرب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام .
ولزيدٍ قِصَّة ترويها كتب السيرة ؛ وهي أنَّ زَيْدًا كان صغيرًا ، أَتَوْا به إلى سوق عُكاظ وباعوه عبدًا ، لأنَّ أُمّه كانت تزور قومها بني معن ، وكان معها ابنها زيد بن حارثة ، فأغارت عليهم خيلٌ لبني القيد ، فأخذوا المال واستاقوا الإبل وسَبُوا الذراري ، هكذا كان العرب في الجاهلية .
واشترى هذا العبدَ حكيم بن حزام بن خُوَيلِد ( وهو ابن أخي السيدة خديجة رضي الله عنها ) بأربعمئة درهم ، واشترى معه عدد من الغلمان وعاد بهم إلى مكة .
فلما عرفت عمَّتُه خديجة بنت خُوَيلد بمَقدمهِ زارته مُرَحِّبةً به ، فقال : اختاري يا عَمَّة أيّ هؤلاء الغلمان شئتِ فهو لك ، فتفرَّست السيدةُ خديجةُ وجوه الغلمان واختارت زيدَ بنَ حارثة ، ومَضَتْ به .
وعندما تزوَّجتْ خديجةُ رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم ، أرادت أن تُتحِفَه بهدية ، فأهدت له غلامها زيد بن حارثة ، فعاش زيد رضي الله عنه مع النبي عليه الصلاة والسلام في بيته .
أمَّا أُمُّه وأبوه فقد بَحَثَا عنه كثيرًا ، وفي موسم الحجِّ قصَدَ البيتَ الحرام نفرٌ من قوم زيدٍ ، وفيما كانوا يطوفون بالبيت العتيق وجدوا زيدًا أمامهم ، فعرفوه وعرفهم ، وقال لهم زيدٌ : أبلِغُوا أهلي .
فلما قضَوْا مناسكهم وعادوا إلى دِيارِهم أخبروا أباه بخبره .
و لما علِم حارثة أنَّ ابنه بِمَكَّة ، شَدَّ راحِلَتَهُ وهيَّأ مبلغًا كبيرًا من المال لافتدائه ، وتَوَجَّهَ تِلْقاءَ مكَّة ، ومعه أخوه .
فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم قالَا له :
( يا ابن عبد المطلب ، يا ابن سيد قومه ، أنتم أهل حَرَم الله ، تَفُكُّون العاني وتُطعمون الأسير ، جئناك في ولدنا عبدك ، فامنُن علينا وأحسِن في فدائه فإنا سندفع لك ).
فقال عليه الصلاة والسلام : وما ذاك ؟
قالوا : زيد بن حارثة .
فقال عليه الصلاة والسلام : أوَ غير ذلك ؟ ادعوه فخَيِّروه ، فإنِ اختاركم فهو لكم بغير فداء ، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء .
فقال العمّ والأب : زدتنا على النَصف ( أي الإنصاف ) ، فدعا النبي ﷺ زيدًا فقال : هل تعرف هؤلاء ؟ قال : نعم ، هذا أبي وهذا عَمِّي .
فقال صلى الله عليه وسلم : فأنا مَنْ قدْ علِمْتَ ، وقد رأيتَ صُحبتي لك ، فاخترني أو اخترهما .
فقال زيدٌ من غير تَرَدُّدٍ ولا إبْطاء : ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا ، أنت مني بمكان الأب والعم .
فقال أبوه : وَيْحَكَ يا زيد !! أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك ؟؟!
قال : نعم ، إني قد رأيتُ من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا .
هذه هي المُعاملة التي عامله بها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، فهل نسْتطيع أنْ نُعامل إنْسانًا مُعامَلَةً يؤْثِرُنا بها على أمِّهِ وأبيه؟!
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من زَيْدٍ ما رأى ، أخذ بِيَده وأخْرجه إلى البيت الحرام ، ووقف به عند الحِجْر على ملأ من قُرَيش ، وقال : ” اشهدوا أن زَيْدًا ابني يَرِثُني وأَرِثُه ” ، فلمَّا رأى ذلك أبوه وعمّه طابت أنفسهما وانصرفا مطمئني النفس ومُرتاحي البال .
ومنذ ذلك الوقت أصبح زيدُ بن حارِثة يُدعَى زَيْد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام .
والغريب في القصَّة هو أنه مهما كان الإنسان يعيش في رَغَدٍ من الحياة إلا أنه لا يُؤثر أحدًا على والدَيْه .. ولنا أن نتخيل كيف كان يعامله النبي صلى الله عليه وسلم حتى تكون النتيجة أن يُؤثِر زَيدٌ النبيَّ ﷺ على أبويه !
ولما بُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام، وأبْطَلَ الإسلامُ التَبَنِّي حين نزل قوله عزَّ وجل :
” ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا “.
عندَئِذٍ عاد النبي عليه الصلاة والسلام وناداهُ زيد بن حارثة امتِثالًا لأمر الله ، وإكرامًا له عندما ردّه إلى أبيه .
وزيدٌ رضي الله عنه هو الصحابي الوحيد الذي ذُكِر اسمه في القرآن الكريم ، فقد ذكر الله اسمه في آية من القرآن الكريم تطييبًا لخاطره .
فيا ترى ما هي هذه الآية ، وما سبب نزولها ، وما هي قصتها ؟
هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة إن شاء الله .