رحلة الطائف 3 :
( ٥٤ ) الحلقة الرابعة والخمسون من سيرة الحبيب ﷺ :
رحلة ” الطائف ” وإيذاء الحبيب صلى الله عليه وسلم :
عرفنا في الحلقة الماضية أن النبي صلى الله عليه وسلم اتجه إلى الطائف برفقة مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام ، فلم تُجِب إليه واحدة منها .
سافر صلى الله عليه وسلم في الصحراء ماشيًا على قدميه في الحر الشديد مسافة تقارب المائة كيلو مترًا حتى وصل إلى الطائف ، فأقام بين أهل الطائف عشرة أيام لم يترك فيها أحدًا من أشرافهم إلا أتاه ودعاه للإسلام .. لكنهم لم يستجيبوا لدعوته صلى الله عليه وسلم ولم يكتفوا بالتكذيب والإنكار ، بل قالوا : اخرج من بلادنا .. وأَغْرَوا به سفهاءهم .
فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، فوقفوا له صفَّيْن وجعلوا يرمونه بالحجارة ، ورجموا عراقيبه ، حتى اختضب نعلاه الشريفان بالدماء .
وكان زيد بن حارثة رضي الله عنه يقيه بنفسه حتى أصابه شِجَاج في رأسه .
ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط ( أي بستان ) لعتبة وشيبة ابني ربيعة على مقربة من الطائف .
وعلى الرغم من أن عتبة وشيبة كانا كافرين قد ناصبا النبي صلى الله عليه وسلم العداوة ، لكنهما رأفا لحال النبي صلى الله عليه وسلم وقتها ، فأدخلاه بستانهما .
فلما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم وزيد رضي الله عنه ، بدأ زيد رضي الله عنه يضمد جراح النبي صلى الله عليه وسلم .
ويُروى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد تعرضه لذلك الأذى الشديد دعا بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ :
” اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعفَ قُوَّتِي ، وَقِلَّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ، يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ ، وَأَنْتَ رَبِّي ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي ، أَو إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي ، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، أَنْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُكَ ، أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُكَ ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ “.
يا له من تضرع وابتهال وافتقار إلى ربه في جميع الأحوال .
وبينما كان عتبة وشيبة يراقبان النبي صلى الله عليه وسلم ، تحرَّكت عاطفةُ القرابةِ في قلبيهما فدعَوا غلامًا لهُما نصرانيًّا ، يُدعى ( عدَّاسًا ) وقالا لهُ : خُذ قِطفًا منَ العنَبِ ، واذهب بهِ إلى الرَّجلِ .. فلمَّا وضعَهُ بينَ يدَي رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ مدَّ يدَهُ إليه قائلًا : ” بسمِ اللهِ ” ، ثمَّ أكلَ .
فقال عدَّاسُ إنَّ هذا الكلامَ ما يقولُهُ أَهْلُ هذِهِ البلدةِ .
فقال لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : ومِن أهل أيِّ البلادِ أنتَ يا عداس ، وما دينك ؟
قال: نصرانيٌّ ، وأنا رجل من أهل من نينَوى .
فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ : مِن قريةِ الرَّجلِ الصَّالحِ يونسَ بنِ متَّى ؟
قال لهُ : وما يُدريكَ ما يونسُ بن متَّى ؟
( دُهش عدَّاس لأن العرب لم يكونوا يعلمون أسماء الأنبياء لأنهم يعبدون الأصنام ، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد الأنبياء السابقين أدرك عدَّاس أنه أمام شخص غير عادي!! ).
فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ : ذاكَ أخي ، كانَ نبيًّا وأَنا نبيٌّ .
فأَكَبَّ عدَّاسٌ علَى يدَي رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ ورجليهِ يقبِّلُهُما .
فقال ابنا ربيعةَ أحدُهُما للآخرِ : أمَّا غلامُكَ فقد أفسدَهُ عليكَ .
فلمَّا جاءَهما عدَّاسُ قالا لهُ : ويلك يا عدَّاس مالَك تُقَبِّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟! قال : ما في الأرضِ خيرٌ مِن هذا الرَّجلِ .
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بعدها من بستان ابني ربيعة قبل أن يتمكن من أخذ قسطٍ كافٍ من الراحة بعد ما تعرَّض له من إيذاء شديد .
ولقد سألت عائشة رضي الله عنها النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومًا فقالت : هل أتى عليكَ يومٌ كانَ أشدَّ من يومِ أُحُدٍ ؟
قال : ” لقد لقيتُ من قومِكِ ما لَقِيتُ ، وكانَ أشدَّ ما لَقِيتُ مِنهم يومَ العَقَبَةِ ، إذ عَرَضتُ نَفسِي على ابنِ عبدِ يَاليلَ ، فَلَم يُجِبني إلى ما أردتُ ، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي ، فَلَم أستَفِقْ إلا وأنا بِقَرنِ الثَّعالِبِ ، فرفعتُ رأسي ، فإذا أنا بسَحَابَةٍ قد أظلَّتني ، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ ، فناداني فقال : إنَّ اللهَ قد سَمِعَ قَولَ قَومِكَ لَك ، وما رَدُّوا علَيك ، وقد بَعَثَ إلَيك مَلَكَ الجبالِ ، لِتَأمُرَهُ بِما شِئتَ فيهم .
فناداني مَلَكُ الجبالِ ، فسلَّم عَلَيَّ ، ثم قال : يا مُحَمَّدُ ، قَد بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيكَ لِتَأمُرَنِي بأمرِك ، فما شِئتَ ، إنْ شِئتَ أنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخشَبَينِ ؟ ( أي الجبلين )
فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : بل أرجُو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبُدُ اللهَ وحدَه ، لا يُشرِكُ به شَيئًا “.
بالطبع كانت الفرصة سانحة للنبي صلى الله عليه وسلم لينتقم من أهل الطائف لما ألحقوه به من أذى .. وكان يمكنه صلى الله عليه وسلم أن يفعل كما فعل غيره من الأنبياء عليهم السلام .
فقد دعا موسى وأخوه هارون عليهما السلام على فرعون وقومه فقالا : ” رَبَّنَا اطمِس عَلى أَموالِهِم وَاشدُد عَلى قُلوبِهِم فَلا يُؤمِنوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الأَليمَ “.
فقال الله لهما : ” قَد أُجيبَت دَعوَتُكُما “.
ودعا نوحٌ عليه السلام على قومه فقال : ” رَبِّ لا تَذَر عَلَى الأَرضِ مِنَ الكافِرينَ دَيَّارًا “.
فاستجاب الله له وأغرق الكافرين .
فكان من حق النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل مثل غيره من الأنبياء عليهم السلام ويدعو على الذين آذوه .
لكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ، بل دعا لهم بخير حين قال لمَلَك الجبال :
” أرجُو أن يُخرِجَ اللهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبُدُ اللهَ وحدَه ، لا يُشرِكُ به شَيئًا “.
صلَّى الله عليك يا خير من عفا وصفح .
ونُكمل الحديث في الحلقة القادمة إن شاء الله .