تفاوض قريش مع الرسول ﷺ لصرفه عن دعوته 1 :
( ٤٤ ) الحلقة الرابعة والأربعين من سيرة الحبيب ﷺ :
فلنبدأ الكلام بالصلاة والسلام على خير الأنام وآله وصحبه الكرام .
عرفنا في الحلقة الماضية كيف كان إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما نصرًا كبيرًا للدعوة الإسلامية. فلقد تحسَّنت أحوال المسلمين كثيرًا بحيث صاروا يُظهرون عبادتهم في مكة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدخل في صدام دموي مع قريش ، فظلَّت الأصنام موجودة ، والخمر والميسر وغيرها من أمور الجاهلية ، ومع ذلك لم يُفرَض على المسلمين الجهاد .
وإن في هذا لرسالة واضحة للشباب المتحمسين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والعنف ، متجاهلين أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يقم بمثل هذا في فترة وجوده بمكة قبل الهجرة إلى يثرب ، وإن الجرأة من شباب المسلمين على المشركين في ذلك الوقت لم تكن لتُعدّ شجاعة ، ولم تكن لتُعَدُّ جهادًا ، وإنما كانت تُعَد تهورًا وتسرعًا وجهلًا بفقه المرحلة ، وقد تخسر الدعوات كثيرًا من حماس البعض في غير موضعه .
وبفضلٍ من الله ، فقد أحدث إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما تغييرات محورية في مسار الدعوة الإسلامية ، وتغيرت موازين القوى في مكة ، ولم يكن ذلك يخفى على المشركين ، إذ بدأت الدعوة الإسلامية في التسلل إلى داخل بيوتهم ، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون ، فلذلك قررت قريش أن تستأنف المفاوضات مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
عتبة بن ربيعة يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم :
كان عتبة بن ربيعة سيدًا في قومه ، وكان من الحكماء ، فقال يومًا وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ، ويكف عنا ؟ فقال له المشركون : بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه ؛ فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة ( أي المنزلة ) في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعِبتَ به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غاية الأدب مع عتبة المشرك ، فقال له في سعة صدر : قل يا أبا الوليد ، أسمعْ .
فقال عُتبة : يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا ، وإن كنت تريد به شرفًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك ، وإن كنت تريد به مُلكًا ملَّكناك علينا ؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رُؤًا تراه لا تستطيع رده عنك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع ( أي الصاحب من الجن ) على الرجل حتى يُداوى منه .
ولقد كان هذا العرض السابق من عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم عرضًا غير مهذب ، لأنه كان يحمل اتهامًا صريحًا للنبي صلى الله عليه وسلم بالطمع والجنون ، ولكن عتبة حاول أن يخرجه في صورة مهذبة .
وعلى الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم منذ أول كلمة تفَوَّه بها عتبة أن كل ما سيعرضه عليه ما هو إلا مساومات مرفوضة لا قيمة لها ، إلا أنه لم يقاطع عتبة ، وظل مُنصِتًا له حتى فرغ من حديثه ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ” أقد فرغت يا أبا الوليد؟ ” ، فأجابه عتبة : نعم .
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ” فاسمعْ مني ” ، فقال عتبة : أفعل .
فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم : { حمۤ ﴿١﴾ تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴿٢﴾ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿٣﴾ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴿٤﴾ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴿٥﴾ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَٱسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ﴿٦﴾ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿٧﴾ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿٨﴾ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴿٩﴾ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ﴿١٠﴾ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴿١١﴾ فَقَضَـٰهُنَّ سَبْعَ سَمَـٰوٰتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَـٰبِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ ﴿١٢﴾ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴿١٣﴾ }.
وهنا لم يتمالك عتبة نفسه ، وقد أخذ به الرعب والهلع كل مأخذ ، وكاد قلبه ينخلع ، وشعر وكأن صاعقة ستنزل عليه في لحظة أو في لحظات ، ونسي أمر المفاوضات التي جاء من أجلها ، بل نسي مكانته وهيبته ، وقام فزعًا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك الله والرحم ، أنشدك الله والرحم !
مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ عليه هذه الآيات حتى انتهى إلى السجدة منها ، فسجد ، ثم قال له : ” قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعتَ ، فأنتَ وذاك “.
فقام عتبة يجرُّ ثوبه مهرولًا إلى قومه ، عيناه زائغتان ، وأنفاسه متقطعة ، حتى دخل على زعماء قريش ، فلما رأوه قال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ! فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ فقال : ورائي أني قد سمعت قولًا والله ما سمعت بمثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة .. يا معشر قريش ، أطيعوني ، وخَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فمُلكه مُلكُكُم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به .
فاندهش المشركون من كلام عتبة ، وقالوا له : سَحَرَكَ والله يا أبا الوليد بلسانه ! فقال لهم عتبة : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم .
وسنعرف كيف تطورت الأمور بعد ذلك في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .
وخير ختام هو الصلاة والسلام على نبينا الأمين وآله وصحبه الكرام .